د. عبد المنعم سعيد لا يوجد فى هذا المقال عرض لموقف إدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما من الشرق الأوسط، أو من أحداث ما سمى الربيع العربي؛ ولا حتى عن متابعته للقضية الفلسطينية. مثل ذلك عالجه الكثير من الزملاء ،وربما يكون هناك مقال آخر يخصص لمثل هذا الموضوع الخطير. موضوعنا هنا هو الرئيس وإدارة السلطة والسلطان فى لحظة أزمات وأحداث خطيرة مر بها رئيس أمريكى إفريقى كان نجاحه فى الانتخابات مستبعدا، وربما لن يتكرر مرة أخرى فى التاريخ القريب على الأقل. فى البداية فإن كتابة المذكرات، والكتب الخاصة بالرؤساء فى عمومها، تعد من أكثر أنواع الكتب إثارة واقترابا من تاريخ الحياة الإنسانية. وأصبحت فى الولاياتالمتحدة خاصة نوعا من التقاليد المرعية فى الإنتاج من قبل الرئيس نفسه، وفى المتابعة ليس فقط من الشعب الأمريكي، وإنما أكثر من ذلك العالم كله. فلا أذكر أن الرئيس برجنيف فى الاتحاد السوفيتى القديم، أو حتى رؤساء فى دول مهمة مثل فرنسا وألمانيا قد ترك تراثا عالميا. بعض رؤساء الوزراء فى بريطانيا والهند وغيرهما تركوا تراثا من المذكرات، ولكنه فى أغلبه لم تكن مذكرات خاصة، وإنما تأريخ لفترة تاريخية بعينها، أو لأحداث عظمى ارتبط بها السياسى فى القرار والمسئولية. تشرشل وديجول تركا كتابات عن الحرب العالمية الثانية، وعندما كتب لينين أو ستالين فإن كتابتهما كانت عن الأيديولوجية الماركسية وتفسيرها عند التطبيق. فى أمريكا وعندما ينتهى زمن إدارة فإن زوجة الرئيس تكتب، وبعهدها يأتى وزراء الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومى وبعد ذلك آخرون يدلون بدلوهم عن فترة الإدارة التى عاشوها. بعض الرؤساء الأمريكيين كتب عن فترته باختصار، وعن القرارات التى اتخذوها كنوع من الشرح والتبرير وبعض من الاعتذار. أوباما كما يبدو من مذكراته كان مستعدا للغاية، والمرجح أنه كتب يوميات تفصيلية عما رآه واستمع إليه، وكيف كان رد فعله ساعة حدوث هذا وذاك، وكل ذلك يجرى فى إطار ما يعتقده وما يحيط به من تكوين أسرى وعائلى تجرى فيه تفاعلات كثيرة. لحسن الحظ أننى أحب قراءة الكتب من أولها حتى آخرها، ومن النادر القفز على الموضوعات إلى موضوع مستهدف لأن الكتب تمثل وحدة متكاملة من الأفكار التى كثيرا ما ترسى فى مقدمة الكتاب وافتتاحيته، وعلى القارئ أن يتتبع خطوط المؤلف ويرى ما فيها من اتساق وتناسق وتناقضات أيضا. أوباما منذ البداية لم يكن ممكنا له التخلص من الحاضر ساعة كتابة الكتاب، وهو فى العموم سنوات الرئيس الخامس والأربعين دونالد ترامب ، والذى كان نقيضا ل أوباما فى كل شيء أو على الأقل بنى شهرته وصيته على هذا التناقض. أوباما فى الواقع وفى مذكراته يبدأ من نقطة التناقض هذه معبرا عن مدرسة أخرى فى التفكير السياسي. أولى صفحات مذكرات أوباما تضعه مباشرة فى المدرسة الليبرالية المثالية فى فهم السياسة الأمريكية فى الداخل والخارج والتى يكون مُقتربها الأفكار والأخلاق، حيث الأولى تجعل التفاهم والوفاق والتوافق أساسيا لصلاح العمل السياسي، والثانية هى التعبير الصحيح عن تصور المؤسسين الأوائل للدولة الأمريكية سواء كان جورج واشنطن أو توماس جيفرسون. ولكن ما يهمنا فى مقامنا هذا هو رؤيته للساحة السياسية الأمريكية التى يتصورها من وجهة نظر يجرى فيها التوافق ما بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى فى سهولة ويسر خاصة إذا كانت القضية هى الأزمة المالية الكبرى التى جرت فى خريف عام 2008، وكانت أحد أسباب نجاح أوباما فى الانتخابات الرئاسية . هنا فإن القارئ لن ينتظر كثيرا حتى يكتشف مدى فساد هذه النظرة وقلة حيلتها إزاء الانقسام الأمريكى الكبير الذى جعل من انتخاب أوباما بداية لحرب أهلية أمريكية صامتة عبرت عن نفسها أولا أثناء إدارة أوباما فى محاولة منعه من تحقيق الانتعاش الاقتصادى بعد الأزمة، حتى ولو كان الثمن الفادح لها سوف يضر الأمة الأمريكية كلها. وثانيا لم تعد الحرب صامتة إبان الإدارة التالية للرئيس ترامب . فى المذكرات نجد ذلك الانفصام الكبير بين الأفكار والقيم، وواقع التعامل مع أقلية من المعسكر الآخر بالإغراء والإغواء ولى الأذرع لكسب أغلبية مؤقته؛ أو ببساطة الاعتماد على القرارات التنفيذية الرئاسية التى تحتاج ثلثى أعضاء الكونجرس لرفضها. ومع إطلاقها فإن الدستور الأمريكى يتيح للرئيس التالى إزالة قرارات الرئيس السابق. الأمر فيه الكثير من التفاصيل، وتتبدى فيه كيف أثرت العولمة سلبا على المجتمع الأمريكي، وقدراته التنافسية، وأيقوناته الصناعية، وشركاته الكبرى لكى تنعزل الأغلبية البيضاء وتشعر بالغبن وتستعد للثورة السياسية التى أتت ب ترامب بعد ذلك. وقع ذلك على عكس ما هو سائد كثيرا لدينا من أن العولمة ما هى إلا الوسيلة الأمريكية للهيمنة على العالم. ولكن أوباما ، وأنصاره وتلاميذه، الذين عاشوا محرقة الأزمة الاقتصادية والمالية الكبرى وتعلموا منها أنه ليس بوسع الفلسفة الليبرالية أن تنقذ أمريكا، وأن توجها واقعيا قائما على القوة والضغط والانحياز للأغنياء هى التى أخرجت أمريكا من مأزقها. المدهش أنه بعد ذلك فإن الجماعة الليبرالية الأمريكية وجدت أن ذات الأفكار هى التى لابد لها أن تكون علاجا لبقية دول العالم من آلامها وأوجاعها وأزماتها الخطيرة. التركيز الذائع لدى أوباما وأنصاره على أن الفكرة الأمريكية الأصلية كما يظنونها صالحة لكل الأزمنة والأمكنة بغض النظر عن التطور التاريخي، والتعقد الاجتماعى والاقتصادي، والتركيبة الثقافية لدول وأمم أخرى لابد له أن يخلق واقعا آخر يستوجب سياسات مغايرة. هنا نجد فشل أوباما فى استيعاب حتى التجربة الأمريكية ذاتها والتى أقرت بالعبودية أولا، وقادت إلى الحرب الأهلية ثانيا، وانتهت إلى استئناف العبودية تحت قوانين أخري، وحتى وجود النزعة لخوض حروب فاشلة فى كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق رغم ما هو متصور من وجود آليات ومؤسسات ديمقراطية تكفى الدولة الأمريكية شرورا كثيرة. فى النهاية، وقبل أن نصل إلى الشرق الأوسط، فإن أوباما المفكر و الرئيس كان عاجزا تماما عن المراجعة الفكرية والبحث فى العجز الليبرالى عن التعامل مع مشكلات ومعضلات إنسانية معقدة. نقلا عن صحيفة الأهرام