توقفنا في المقالة السابقة عند ما وصفناه بأنه أعجب ما في الرواية وأكثره إثارة للحيرة: فالقوى التي تهيمن على مدينة جاكي ساكه الفاسدة؛ تلك الكائنات النورانية التي تصفها إريكو فوكادا في حكايتها بالناس الصغار، هي حقا قوى علوية سماوية، وإن كانت سيريالية المظهر؛ فهى تتشكل في صورة رجال بحجم جاليفر أو عقلة الإصبع . لكنّ الأعجب من مظهرها، طبيعتها الجوهرية، التى تُنبئنا أحداث الرواية أنها شريرة مدمرة. وهذه أولى مشكلاتنا مع هذا العمل المشوّق، والمكتوب بحرفية شديدة، من حيث تقنية السرد والقدرة على الاحتفاظ بانتباه القارئ و رسم الشخصيات ، إلا أنه من حيث المحتوى الفكري يعاني تناقضات ومبالغات. مثلا شخصية ذلك الزعيم، الذى يصفه العمل بأنه سميع، وهى في الرواية كلمة ترادف في المعنى نبيًا يتلقى الوحي، والذى نراه، لأول وآخر مرة، قرب نهاية الجزء الثاني، فيتضح لنا مدى عذوبته الإنسانية؛ وهذا تناقض آخر: لأن هذا الإنسان الجميل نراه شديد الحرص على اتصاله ب كائنات سماوية ذات تأثيرات مدمرة! تناقض ثالث ينشأ عن المبالغة في الإيحاء بمدى هيمنة نخبة جاكى ساكه على زعيمها الروحي، رغم أنه المؤسس، والمُلهَم الذى يتلقى الوحي، وصاحب الكاريزما الغلاّبة. بل إن معظم فصول الكتاب تدور أحداثها في جو من المطاردة لكل من شاركوا في صدور رواية الشرنقة الهوائية التي أملت أحداثها ابنة الزعيم، الذى هربّها، وكأنه عاجز عن حمايتها، من القرية الظالم أهلها، قرية أسسها ذلك الأب ويحكمها بالوحي الإلهي المطلق في نظام قائم على السمع والطاعة - تناقض رابع! أمّا المبالغة الكبرى في العمل، فهي قصة الحب الأفلاطونية الصامدة عبر الدهور، التي خلقتها لحظة تماسك بالأيدي بين طفلين في العاشرة هما زميلان في صف دراسي ابتدائي. هذان الطفلان هما بطلا العمل، تِنجو وأومامه، اللذان تبدأ أحداث الرواية بعد أن بلغا الثلاثين، في عام 1984 الذي تحول لعام IQ84، بعد عشرين عاما من تلك اللحظة التي ضغطت فيها أومامه على يد تنجو وهما وحدهما في الفصل، في بُرهة قالت له فيها بعينيها ما لم يفهمه ساعتها لكنه عاش في وجدانه - وجدانهما معا - طوال عشرين عاما - يحلمان خلالها أحدهما بالآخر - بعد أن تفرّقا في الواقع. وعاش الطفلان اللذان شبّا فأصبحا مراهقين فبالغين، حياة جنسية عادية، لكن تجاربهما الكثيرة لم تكن عميقة، بل ظلّ الحب الكبير بينهما رابضًا في الأعماق. ولم يكشف لنا أوراكامى كل أوراق اللعبة الروائية منذ البداية، فَدَسّ فكرته الأفلاطونية تدريجيًا في فصول الرواية، فعرفنا عزوفهما عن التجارب العاطفية العميقة في حياتهما الجنسية، ولم نعرف أسباب ذلك. ولا يحكى لنا حكايتهما القديمة معا حتى بلغت فصول الرواية المنتصف. وقصة الحب هذه قائمة على أسطورة فلسفية أفلاطونية هى أن الإنسان يولد نصفًا ناقصًا، ويظل حياته كلها يبحث عن نصفه الآخر الذى يكمله حتى يأذن القدر بذلك. وموراكامى يطوّر هذه التيمة بشكل أكثر شاعرية، ويترجمها من حيث أسلوب الحكي إلى شكل روائى قائم على تواتر يتقاسم فيه البطلان تتابع الفصول، فيبدأ بأومامه ثم يُثنيِّ بتِنجو ويعود لأومامه فتِنجو.. ولا يتوقف هذا حتى يلتقي العاشقان بعد رحلة بحث تقودها الأقدار استغرقت عشرين عاما وسبعين فصلا هى فصول هذا العمل الذى تتقاسم السذاجة الفكرية والحنكة الروائية أحداثه ومشاهده، لكن المحصلة النهائية متعة لا ينكرها إلا قارئ جاحد؛ فإن الكاتب الذى ينجح في القبض على انتباه واهتمام قارئه، وهذا لا يتأتى إلا من خلال الحكي الممتع ، هو كاتب متمكن، بل كاتب - كما يقول موراكامى نفسه - يستمتع وهو يكتب، ويشوِّقه ما يكتبه فيسّتمر في الكتابة لصفحات ستمائة وخمسين بعد الألف!. * نقلًا عن صحيفة الأهرام