أمس الأحد كانت الذكرى الرابعة عشرة لرحيل نجيب محفوظ 11/12/1911 30/8/2006، ذكرته دون لقب يسبقه. فأصبح أكبر من كل الألقاب. فهو الذى أسس فن الرواية العربية الحديثة. ولا أريد أن أدخل فى خلافات مكانها الطبيعى بين نقاد الأدب. ومجالها يقوم به الباحثون والدارسون لتاريخ الأدب الروائى العربي. أعتقد أن المقولة التى ترى أن الدكتور محمد حسين هيكل 20/8/1888 - 8/12/1956 مؤسس الرواية العربية الحديثة. بروايته الشهيرة: زينب «1914». ثم روايته الثانية والأخيرة: هكذا خُلِقتْ، 1955. ومن قبل اختلف كثيرون مع ريادة هيكل لتأسيس الفن الروائى العربي. وذهبوا إلى بعض محاولات القرن التاسع عشر. ولكنى أعتقد ومن باب الإنصاف فقط أن نجيب محفوظ مؤسس هذا الفن ومصَّره وعرَّبه. وجعل له هذا الحضور المتجدد بيننا. على الرغم من مرور أربعة عشر عاماً على رحيله. وما أسرع ما تجرى السنوات هاربة بنا. كان كتابه الأول ترجمة لكتاب: مصر القديمة. كتبه بالإنجليزية جيمس بيكي، وصدرت الترجمة 1932، وكان نجيب محفوظ فى الواحد والعشرين من عمره وقتها. وكما قال لنا إنه أراد أن يذهب إلى الجامعة وبيده كتاب عليه اسمه. فاجتهد وثابر وعانق المستحيل حتى يحقق رغبته. أما روايته التاريخية الأولى فكانت: عبث الأقدار. صدرت 1939، كان فى الثامنة والعشرين من عمره. وكانت جزءاً من مشروع كبير. حلُم أن يكتب تاريخ مصر بالروايات. وبدأ من مصر القديمة. لكنه ما لبث أن انصرف عن الموضوع بسبب أن جورجى زيدان سبقه فى هذا الميدان. وهو يبحث عن الجِدة والأصالة والابتكار فى كل ما يقوم به. حتى عندما كان شاباً صغير السن. أما روايته الأولى التى تدور حول الواقع المعاصر: خان الخليلي. فأصدرها 1945 وكان فى الرابعة والثلاثين من عمره. مشروع عمره الروائي: ثلاثية بين القصرين. صدر الجزء الأول منها 1956، وكان فى الخامسة والأربعين من عمره. أى فى صدر شبابه. حكى لى أنه كتبها على شكل مجلد واحد. وعندما ذهب بها إلى سعيد السحار، شقيق عبد الحميد جودة السحار، وصاحب دار مصر للطباعة التى كانت تتولى نشر مؤلفاته. نظر لحجم ما بين يديَّ نجيب محفوظ، وقال له:ما هذه الداهية التى أتيت بها؟. انصرف نجيب محفوظ حزيناً. ولكنه بعد فترة من الوقت مثل كل أصحاب المشروعات الكبرى عاد وأخذ نصه الروائى وجعل منه ثلاثية. الذى حكم تصنيفه كانت الأمكنة التى تدور فيها أحداث الروايات. ومن يذهب إلى الجمالية سيكتشف حالة العناق بين الأمكنة الثلاثة: بين القصرين، قصر الشوق، ثم السكرية. أما روايته الإشكالية التى تعرض لمحاولة اغتيال بسببها: أولاد حارتنا. فقد نُشِرت 1959وكان فى الثامنة والأربعين من عمره. أى أنه كان يودع شبابه ويستعد لاستقبال مرحلة ما بعد الشباب فى حياته. وملابسات نشر الرواية معروفة. لكن نجيب محفوظ حكى لنا أنها نُشِرت للمرة الأولى مسلسلة فى جريدة الأهرام 1959، ثم صدرت ككتاب عن دار الآداب فى بيروت 1962. وظلت ممنوعة فى مصر حتى حصوله على جائزة نوبل فى أكتوبر 1988، فصدرت طبعتها المصرية الأولي. آخر عمل أدبى يحمل اسم نجيب محفوظ هو: الأحلام الأخيرة. صدر بعد رحيله بتسع سنوات. وقبل الرحيل بسنة واحدة كانت قد صدرت أحلام فترة النقاهة. الذى يقال إنه العمل قبل الأخير. وإن كنت أتصور أنه عمله الأخير الذى نشر فى حياته. نحن إذن أمام روائى صاحب مشروع مؤسس لفن الرواية. كتب الرواية والقصة الطويلة، والقصة القصيرة، والنص المسرحي، وبعض المقالات. أى أن كل ما كتبه يمكن أن يشير إليه ويلخصه كلمة واحدة: السرد. بكل تجلياته المختلفة وتعبيراته التى تتم عبر النوع. وإن اختلفت من شكل لآخر. لكنها كلها تدور معتمدة على السرد. من كانوا سعداء الحظ مثلى عرفوا الإنسان نجيب محفوظ خلال حياته لفترة طويلة. فقد التقيت به وظلت مقابلاتنا مستمرة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي. وحتى رحيله عن عالمنا. وفى هذه الحالة يصبح الكلام عن نجيب محفوظ الإنسان مُكمِلاً لمشروعه الروائي. تُلخِص الرجل كلمات محددة: الدأب، المثابرة، الاستمرارية الجادة. فالرجل لم يتوقف عن الإبداع سوى فى حالات نادرة. لعل أهمها قيام ثورة يوليو 52، فقد توقف حوالى ست سنوات عن الكتابة. وكان لديه إحساس بأنه قال ما عنده. وليس لديه جديد يمكن أن يقدمه. وقرر الصمت. لكن منذ أن داعبت خياله روائح ومقدمات وأجواء: أولاد حارتنا. حتى عاد إلى الكتابة مختلفا ومغايراً لما كان عليه قبل التوقف. الدأب بالنسبة له كان يعنى القراءة ثم الكتابة. والقراءة كانت تبدأ من الأعمال القصصية والروائية المؤلفة والمترجمة. وتصل لمحاولة استقراء حياة الناس اليومية وما يجرى فيها من قصص وحكايات. كان قارئاً جيداً قبل أن يكون كاتباً أكثر جودة. ويكفى أنه عندما رغب فى قراءة رواية: البحث عن الزمن الضائع، لمارسيل بروست. ولم تكن تُرجمت للعربية. أن تعلَّم الفرنسية. وحاول إجادتها بهدف وحيد هو قراءة هذا النص الذى أصبح يشار إليه فى العالم باعتباره نقلة كبيرة فى الكتابة الروائية فى القرن العشرين. ثلاثية نجيب محفوظ : بين القصرين. تجعلنا نقف أمام صاحب المشروع. لا يكفى أن أقول إن روايته: السمان والخريف مهمة. وأن مجموعته القصصية: دنيا الله. كان لها دور مؤسس. فكل هذا يندرج تحت عنوان: مؤسس السرد العربى الحديث. إن التجربة المحفوظية سواء فى القراءة أو فى الكتابة شديدة الأهمية خصوصاً للأجيال الصاعدة. وبالنسبة للكتابة فالأمر سهل. كتبه موجودة. أما القراءة فلا دليل عليها إلا من عايشوه وعاصروه وجالسوه. فلم يكن يعلق على ما يقرؤه إلا فى أضيق الحدود وأندرها. لكن الرجل كان يؤمن بأنه لا توجد كتابة جيدة دون قراءة أكثر جودة. إنه المؤسس للفن الروائى العربي. أما دراسة هذا فأعتقد أن النقاد أقدر منى على القيام به. * نقلًا عن صحيفة الأهرام