لم يدهشنى أن تكون مصر فى مقدمة الدول التى أرسلت مساعدات طبية عاجلة إلى لبنان ، أعقبها تنظيم جسر جوى للإغاثة، يتضمن كل الاحتياجات الضرورية لآلاف المصابين اللبنانيين الذين سقطوا فى حادث الانفجار المدمر لميناء بيروت ، الذى يعد أكبر الكوارث التى تعرضت لها العاصمة اللبنانية فى العقود الأخيرة. فالخسائر البشرية هائلة وحجم الدمار ضخم للغاية والتفجير كان بقوة زلزال مدمر تخطى الحدود اللبنانية وشعرت به دول مثل قبرص، وفى وقت الشدة والأزمات تظهر الزعامات الحقيقية ومكانة الدول وقدرتها على التحرك السريع لإنقاذ الأشقاء. وهذا هو الدور الطبيعى لمصر فى المنطقة، فهى الشقيقة الكبرى وإمكاناتها كبيرة رغم كل الظروف والصعوبات، وتتوافر لمصر الإرادة والقدرة على الحركة، فمصر رغم أزمات الإرهاب والمشكلات الاقتصادية والسياسية والمخاطر المحيطة تستطيع أن تقتطع من قوت أبنائها فى سبيل الدور الإنسانى عموما والعربى خصوصا، وقد رأينا طائرات مصرية تحمل مواد طبية إلى دول أجنبية كبيرة وغنية مثل الصين وإيطاليا وبريطانيا عندما تفشى فيروس كورونا فى تلك الدول، وامتد الدور المصرى إلى إفريقيا ودول فى مختلف القارات. الجسر الجوي الذي قررت القيادة المصرية تسييره من شأنه مساعدة لبنان على مواجهة آثار الدمار فالدور المصرى ينبع من مكانتها وحضارتها ثم تأتى علاقتها المتميزة والتاريخية مع لبنان، فدائما كانت تجمع مصر مع الشام الذى يضم سورياولبنان وفلسطين والأردن علاقة مصير مشترك منذ قديم الأزل، وظلت تلك العلاقات الحميمة تجمع مصر مع لبنان، فكان اللبنانيون جزءًا أصيلًا فى بنية النهضة الثقافية المصرية فى السينما والمسرح والموسيقى والصحافة والإعلام والتجارة، وتحمل جريدة الأهرام اسمي مؤسسيها اللبنانيين سليم وبشارة تقلا منذ نحو 144 عامًا وكان من بين أهم أعلام جريدة الأهرام شاعر القطرين المصري واللبناني خليل مطران المولود فى بعلبك والمتوفى فى القاهرة، وهو نموذج للامتزاج الثقافى بين مصر ولبنان، كما كان لمصر أيضا دور مهم ومحورى فى مسيرة لبنان والعلاقة القوية بكل مكوناتها السياسية والدينية والعرقية والطائفية، وهو ما يجعل الدور المصرى مقبولا كوسيط قريب من كل الأطراف اللبنانية ولها دورها المقدر من الجميع. ولا أعتقد أن الدور المصرى يمكن أن يتوقف عند حدود تقديم مواد الإغاثة والجسر الجوى لإنقاذ المصابين من أشقائنا اللبنانيين، فالدور المصرى محل ترحيب فى حل الأزمة السياسية التى يمر بها لبنان، والفرصة مواتية لتجاوز الخلافات وتحويل الأزمة إلى فرصة لجمع شتات اللبنانيين وإيقاف التناحر الطائفى ومنع تصدير الأزمات الإقليمية والدولية لهذا البلد الجميل والمتنوع المعروف بانفتاحه الثقافى والاقتصادى وهمزة الوصل دائما بين العرب وأوروبا ولا يمكن أن يستمر ساحة للتناحر، بل يجب أن يصبح عاملا للتوحد والتقارب. وكان تدفق المساعدات العربية على لبنان من المحيط إلى الخليج دليلا على قدرة لبنان ومكانته لدى جميع العرب مهما اختلفوا، فدول الخليج أرسلت مساعدات وأعلنت استعدادها لمد اليد للإسهام فى إخراج لبنان من أزمته الاقتصادية، ومصر جاهزة وقادرة على أن تكون الوسيط المثالى لإيجاد حلول مقبولة من جميع الأطراف اللبنانية وأن يتجاوز لبنان أزمته السياسية، لأنها البوابة المناسبة لبناء لبنان المتوافق والمتحد، وأن تكون البداية إعادة بناء ميناء بيروت، الذى كان وسيظل رئة لبنان وشريان تواصله مع أشقائه العرب والثقافة الأوروبية والاقتصاد المتنوع والمنفتح، ولبنان له مزايا كبيرة من أهمها ذلك التنوع الفريد، الذى يمنح لبنان طابعه الخاص والمتميز والقادر على جمع الفرقاء بدلا من تحويله إلى ساحة استقطاب ونزاع وحروب واضطرابات سياسية وطائفية، وقد رأينا كيف أن الرئيس التركى أردوغان يسعى لبث الفتنة فى لبنان. وتقتحم قطر وتركيا لبنان عن طريق شراء ولاء بعض المجموعات فى شمال لبنان مستغلة الأزمة الاقتصادية، خاصة فى مدينة طرابلس لتكون رأس حربة لطعن لبنان والتوغل فيه مثلما تفعلان فى ليبيا، وكنا قد شاهدنا كيف كانت قطر وتركيا تتقربان من سوريا وتدعيان الرغبة فى تقديم المساعدات والمشروعات الاقتصادية، لكنهما طعنتا سوريا من خلال دعم الجماعات المسلحة التى حاولت تقسيم سوريا وتدميرها بالمال القطرى والسلاح والدعم التركى والجماعات التى يجرى استقدامها من كل أقطار الأرض، وحان الوقت كى لا يلدغ لبنان من الجحر نفسه، ولهذا على العرب توخى الحذر وعدم ترك لبنان وحده عرضة للمؤامرات الساعية إلى بث الفتن داخله لتكون المبرر للتدخل فى شئونه ثم محاولة السيطرة على قراره، وللأسف فإن الكثير من الدول العربية كانت غافلة عما يحاك لها وتعرضت لمآس كبيرة وعلينا أن نجنب لبنان ذلك المصير، بأن نسعى إلى رأب الصدع بين الدول العربية لتكون لها الكلمة الأولى فى مصير بلدانها وحماية العرب من مخاطر التقسيم والحروب. إن الجسر الجوى الذى قررت القيادة المصرية تسييره إلى لبنان يمكن أن يتحول إلى جسر يربط لبنان بأشقائه العرب ويربط اللبنانيين بعضهم ببعض من أجل التركيز على ما يجمعهم، وليس ما يفرقهم، فهذا هو ما يحتاجه لبنان الآن فى محنته، وسيكون خروج لبنان من تلك المحنة علامة طيبة على قدرة العرب على التعافى والنهوض والتماسك وتفعيل دور الجامعة العربية لتكون جامعة بحق وأن تلعب الدور الرئيسى فى نسج العلاقات العربية وتمتينها وإعادة اللحمة والتكامل من خلال رؤية بعيدة الأمد يمكنها أن تجمع العرب بعلاقات قوية تفوق ما يجمع الاتحاد الأوروبي ، الذى نجح فى تشييد كيان متماسك رغم تعدد الأعراق واللغات والأديان وتاريخ الصراعات الدامية التى حاربوا فيها بعضهم البعض، لكنهم أدركوا أن التوحد وتعميق التقارب أقصر الطرق نحو الخروج من الأزمات وتحسين مستوى البناء والتقدم، وليس الحروب والنزاعات، ولبنان الآن ينتظر منا أن نقدم له طوق النجاة الذى سيكون الطريق الأفضل لكل العرب وليس للبنان وحده. * نقلا عن صحيفة الأهرام