د. عبد المنعم سعيد قبل ستة وأربعين عاما، وفى 9 أغسطس 1974، وبعد لحظات من تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، قال الرئيس جيرالد فورد : أخيرا انتهى كابوسنا القومي. كان الرجل يزف إلى الأمة الأمريكية انتهاء الأمور التى كونت كابوسا بدا أحيانا أنه لن يمكن الاستيقاظ منه، وكلها دارت حول ما عرف بفضيحة ووترجيت، التى اتهم فيها الرئيس ريتشارد نيكسون بالتجسس على خصومه، وعندما بدأت إجراءات محاكمته قام بالاستقالة، وغادر البيت الأبيض. وبهذه القصة بدأ جورج ويل مقالته فى الواشنطن بوست فى 29 يوليو المنصرم، وبعنوان « انتخاب بايدن سوف ينهى كابوسنا القومى الثانى «المفارقة فى الموضوع هى أن الكاتب ينتمى إلى طائفة المحافظين فى الخريطة السياسية الأمريكية، وله موقف محافظ من قضايا العالم والسياسة الخارجية والداخلية؛ وعندما يتخذ هذا الموقف المضاد للرئيس الحالى دونالد ترامب، ويعتبره الكابوس الثانى الذى ينبغى التخلص منه، فإنما يعنى أن الفرز و الاستقطاب الداخلى الأمريكى قد وصل إلى درجته القصوى حتى انتقل المحافظ الجمهورى الهوى إلى تأييد المرشح الديمقراطي. وفى الواقع أن موقف جورج ويل ليس هو الوحيد الذى انتقل إلى المعسكر الآخر، وإنما سبقه سوف يلحقه بالتأكيد، مجموعات غير قليلة من الحزب الجمهوري، بدأ منهم أصحاب صيت فى الساحة مثل عائلة الرئيس بوش التى حصل فيها الأب على فترة رئاسية والابن على فترتين رئاسيتين، والمرشح الجمهورى السابق ميت رومني، ووزير الخارجية كولين باول، وآخرين كثر. الحكمة العامة تقول إنه عندما تصل الشروخ والانقسامات إلى صفوف الحزب الحاكم، فإن لحظة النهاية تقترب، ويبدو أن فترة الرئيس قد وصلت إلى نقطة الخروج من البيت الأبيض. ولكن ربما يستدعى الأمر مقولة مارك توين : إن الأنباء عن موتى مبالغ فيها للغاية لأنها قد تنطبق على حالة الرئيس دونالد ترامب والتى تشكل حزمة من الدلائل والبراهين على أن الرجل لن يبقى لفترة ثانية فهو واجه أزمة الكورونا بضحالة فى الوصف، وعجز فى المعالجة، حتى بات نصيب أمريكا، الدولة العظمى الوحيدة فى العالم، هو الربع من عدد الإصابات والوفيات فى العالم. وهو من ناحية أخرى شهد عملية أكبر انقسام عرقى شهدته الولاياتالمتحدة منذ ذلك الذى جرى خلال ستينيات القرن الماضي. وتحت حكمه وصلت معدلات البطالة إلى مستويات لم تعرفها الولاياتالمتحدة منذ الكساد العظيم فى الثلاثينيات من القرن العشرين. وقبل ذلك وبعده فهو الرئيس الذى لم يحصل على شرعية كاملة لانتخابه حيث ظل متهما من مجلس النواب طوال فترة حكمه أنه حصل على دعم روسى خلال الانتخابات الماضية. والقائمة بعد ذلك طويلة وتشمل استطلاعات الرأى العام التى تعطى فارقا كبيرا بينه وبين منافسه، وطريقة ترامب فى إدارة البيت الأبيض والدولة كلها من خلال التخلص المتواتر من مساعديه، ومعاداة الإعلام واعتباره عدوا للشعب، والتواصل مع الشعب ليس من خلال خطب تاريخية مؤسسية، وإنما من خلال التويتر والمهرجانات الانتخابية قبل وبعد وفى أثناء الانتخابات. رغم ذلك كله فإنه لا يمكن القطع بأن ترامب سوف يخسر الانتخابات؛ وخلال الانتخابات الماضية فى 2016 فإن كتاباتى جميعا فى الموضوع كانت تقول إن كل المؤشرات التى اتفق علماء السياسة الأمريكية عليها تقع فى صف فوز هيلارى كلينتون، ولكن أمريكا تحب التغيير المستمر، وربما كان التغيير هو الذى يتفوق على الثبات، ولا تتشكل فترة ثالثة فى إدارة باراك أوباما حتى بدون الرئيس من أصول إفريقية. وفى الحقيقة فإن هيلارى كلينتون تفوقت بالفعل على دونالد ترامب، وبفارق ثلاثة ملايين صوت، ولكن الأخير فاز لأنه حاز على أغلبية المجمع الانتخابى للولايات. هذه المرة ربما تكون المسألة مماثلة لما حدث قبل أربع سنوات حيث تقع المؤشرات فى جانب، بينما المصوتون والنظام الانتخابى يسيرون فى جانب آخر. هذه الملاحظة تدفع لعدم التعجل فى إعلان النتيجة لأن هناك الكثير من الأمور المعلقة والتى لم تحسم بعد، ومنها الحدوث من عدمه للانتعاش فى الاقتصاد الأمريكي، وعما إذا كان لقاح الفيروس التاجى سوف يظهر ويوزع قبل الانتخابات أم لا، وقبل كل ذلك وبعده ماذا سوف يحدث خلال الأشهر الثلاثة المتبقية قبل التصويت والتى سوف تحتوى على انعقاد مؤتمرى الحزبين الرئيسيين، وظهور برامجهما، ثم المناظرات التى سوف تعقد ما بين المرشحين والتى يجمع المراقبون على أن ترامب بالغ الحيوية ولا يتورع عن استخدام كل الأسلحة الكلامية التى تحط من شأن منافسه؛ فماذا لو كان المنافس هادئا ومتواضعا ومؤسسيا كجو بايدن؟ وفى العموم فإن الثابت فى النظام الأمريكى أن الرئيس فى البيت الأبيض والمرشح للفترة الثانية يكون لديه قدرات كبيرة على جذب الناخبين لصفه بما يقدمه للولايات من خدمات فيدرالية، وما يعطيه للأنصار من فوائد خاصة. ولكن المسألة ربما لا تكون انتخابية فى المقام الأول، وأن الكابوس ليس عما إذا كان دونالد ترامب سوف يبقى أو يذهب من البيت الأبيض، وإنما كيف سيكون مصير الولاياتالمتحدة بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة. المأزق الأمريكى يطرحه سؤالا ملحا على الساحة السياسية: هل سيغادر دونالد ترامب البيت الأبيض إذا ما خسر الانتخابات أو أنه سوف يعلن عدم قبوله النتيجة لأنها زورت؟ فمنذ الانتخابات الماضية وحتى الآن فإن الرئيس الأمريكى لا يكف عن القول إن الديمقراطيين يزورون الانتخابات، بقدر ما يقدمون الأكاذيب للشعب. وعندما سئل المرشح الديمقراطى جو بايدن ماذا سوف يكون عليه الحال إذا ما رفض الرئيس الخروج فكان رده أنه فى هذه الحال سوف يتدخل الجيش الأمريكى لإخراجه بالقوة! فى حدود العلم فإنه لا توجد سابقة لمثل هذه الحالة فى التاريخ الأمريكي، كما أنه لا يوجد نص فى الدستور الأمريكى يعالج هذا الوضع. السوابق من هذا النوع لم ترد على ذهن المؤسسين الأوائل للدولة الأمريكية، ولعل ذلك هو ما يراهن عليه ترامب أن يوجد من الأوضاع ما لم يعرفه أحد من قبل. وربما كان ذلك هو الكابوس الأعظم. . نقلا عن صحيفة الأهرام