د. عبد المنعم سعيد قبل أسبوع حلت الذكرى ال 68 لثورة يوليو 1952 مع يوم الإجازة المعتاد لليوم الذى صار اليوم الوطنى للدولة المصرية تحتفى به السفارات المصرية فى الخارج، ويجد الكتاب المنتظمون فيه فرصة التحية والمراجعة والتقييم. هو يوم خاص له مواصفاته الوطنية التى تماثل يوم السادس من أكتوبر 1973، وأيام الثورات الأخرى فى يناير 2011، ويونيو 2013؛ ولكنه فى كل الأحوال يمثل «النسخة الأصلية» المعبرة عما فى مصر من طاقة وقدرة على التغيير. الكاتب مثل كل أبناء جيله ولدوا مع الثورة، وعاشوا شعاراتها الخالدة، وصراعها مع الاستعمار وإسرائيل، ودخلوا تنظيماتها الشبابية وعاشوا فيها عندما انفكت هذه التنظيمات، وبدرجة ما حاربوا من أجلها جنودا فى قواتها المسلحة الباسلة. هو جيل لا يمكن فهمه إلا بقدر من المقارنة مع الجيل السابق عليه الذى شهد العهد الملكى الذى كان له إطاره الثقافي، ومنطلقاته السياسية التى حملت تناقضا بين حكم الأسرة العلوية التى كانت امتدادا للحكم العثمانى فى جانب وتمردا عليه فى جانب آخر؛ وتناقضا آخر ما بين بزوغ الشخصية القومية المصرية فى ناحية، وذوبانها فى أطر عربية وإسلامية فى ناحية أخري. هو جيل وجد نفسه مختلفا لأنه جاء مع الحرب العالمية الثانية بكل ما تولد عنها من نظام دولى وتكنولوجيا مختلفة ونظم اقتصادية واجتماعية لا تجد فيها ذلك الحنين الخاص والشجن المتميز لما كان موجودا قبل الثورة من عهد كان يمثل خلطة ثورة 1919 بزعمائها وقادتها والعرش العلوى بما تولد عن كليهما من ميلاد الدولة المصرية ، ومعاركها مع المستعمر الإنجليزى الذى تركته لنا ومعه قضية فلسطين التى استنزفت أعمارنا بعد ذلك. ببساطة كان عام 1952 عاما فاصلا بين نصف قرن مضي، ونصف قرن جديد أخذنا حتى الألفية الثالثة بعد الميلاد؛ والتى ربما بالمناسبة كانت بداية جيل آخر بالظروف والتكنولوجيا وأحوال العيش. بالنسبة لجيلى «اليوليوى» فإن طنين الجيل الذى جاء بعدنا، ويعيش معنا يوم ثورة يوليو كل عام على مدى عقدين من الألفية الجديدة وفى قرن جديد، لا يقل ضوضاء عن ذلك الذى أتى من نصف القرن الذى سبقنا. المناسبة دائما ما تأخذنا إلى التقييم، والممارسون للكتابة المنتظمة يجدون فيها دائما لذة فى التعامل مع المؤيدين للثورة والمعارضين لها، وكلاهما له من نصاعة الفكر وجمال الصياغة ما يكفى لتبيان وجهة نظره بقدرة وإصرار. ولكن أكثر المستمتعين بالمناسبة هم الذين يريدون إرضاء الجميع، فيتحدثون عن سلبيات وإيجابيات المرحلة، هم يمسكون العصا من المنتصف للغرض النبيل وهو متابعة الاستمرارية الوطنية فى التاريخ المصرى المعاصر الذى تعتبره فى أصالته المختلطة. الأمر هكذا ليس جديدا فى التعامل مع الأحداث التاريخية العظمي، وبحكم المهنة فإن الثورات الأمريكية والفرنسية والبلشفية والماوية وغيرها من الثورات، عرفت الطوائف الثلاث من مؤيدين ومعارضين ومستمتعين بالتحكيم بينهما ليس فى تقييم ما جري، ولكنه بالإشارة إلى ما يجري. فكما قرأت لحكيم أننا لا نكتب عن التاريخ الذى جرى فى الماضي، وإنما نكتب عن التاريخ الذى يجرى أمام عيوننا ونحكم عليه فى الوقت نفسه. ما يشغلنى فى الحقيقة هو طنين ذلك الجيل الذى جاء بعدنا والذى فى أغلبه تبدو ثورة يوليو جزءا من تاريخ سحيق يوضع فيه الزعيم عبدالناصر الذى حرر مصر من الإنجليز مختلطا مع ما يحكى عن أحمس الذى حرر مصر من الهكسوس. كلاهما تعبير عن مقاومة الغزاة والانتصار عليهم، وهى قضية باتت الأجيال الجديدة تعتبرها من معطيات الحياة المصرية المعاصرة. فبعد أربعة عقود تقريبا مضت على التحرير الأخير للأراضى المصرية من الاحتلال الإسرائيلى فإن مصر كسبت معركتها التى خاضتها لثلاثة آلاف عام تقريبا من حكم مصر من قبل أجانب غزاة أو متمصرين. القضية التى تشغل هذا الجيل هى التقدم، والسؤال المطروح لماذا رغم الثورة والفورة والزعامات العظيمة لا تصبح مصر مثل سويسرا أو كوريا الجنوبية، أو بالطبع فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. الجيل المصرى الجديد لم يعد ينتظر كما انتظرت أجيال من قبله رفاعة رافع الطهطاوى حتى يحكى عن عجائب باريس فى تلخيص الإبريز، وما يفصله عن معرفة عجائب العالم كله لا يزيد على ضغطة زر، أو ما هو أسرع من نبضات القلب. معايير الجيل فى كرة القدم هى ما يحدث فى الدورى العام الإنجليزى والإسبانى والألمانى والإيطالي، وبمثل هذه النظرة ينظر إلى السيارات والمصانع والمدن والحضر والريف والوادى والساحل والحياة بأكملها. الجيل الملكى السابق علينا كان ينظر إلى مصر من زاوية الدولة التى لم يزد عدد سكانها على 20 مليون نسمة، وعندما كانت تريد بناء مدينة أحياء ومدن جديدة كانت تبنى القاهرة الخديوية ومصر الجديدة والمعادى وبورسعيد والسويس والإسماعيلية. هو جيل له فى الفخامة والعظمة نصيب وحظ إلى الدرجة التى لا يشعر ذنبا من فخامة قصر عابدين أو راس التين أو المنتزه، ولا مجال الساحات والميادين، ولا الأبنية الحكومية فى دار القضاء العالى أو مجمع التحرير. جيل يوليو، جيلنا، عاش ذنوب الفقراء والمحرومين وضياع فلسطين وحتى ضياع الاتحاد السوفيتي، وصنع أحياء ومدنا عجزت عن مواكبة الزيادة السكانية التى بلغت سبعين مليونا قبل أن يدق من جاءوا بعدنا الأبواب بفكر آخر لإدارة الثروة بدلا من إدارة الفقر. هم الذين يعيشون الآن عصر العاصمة الإدارية والعلمين والمنصورة الجديدة وكل المدن الجديدة التى جاورت مدنا قديمة وأخذت المصريين من النهر إلى البحر عبر طرق وأنفاق وجسور تنتهى فى شهور وليس فى سنوات وعقود أحيانا كما حدث مع كوبرى السادس من أكتوبر. يوليو 2020 مختلف كثيرا عن ذكريات يوليو السابقة، أتى هذه المرة ومصر محملة بأزمات مركبة، ولكنها تتعامل معها بحكمة العقل والكلمات المتزنة، وفى الحساب أن مصر باتت مائة مليون نسمة، وأمامها تحديات كثيرة، ولكن أيا منها ليس مستعصيا على الحل، لا فلسطين ضاعت منها ولا مصر، وإنما هى فى إطلالة مستمرة على المستقبل. نقلا عن صحيفة الأهرام