منذ اللحظة التي أيقنت فيها أن الله قد أنجاني من هذا الفيروس اللعين المسمى بكورونا عاهدت الله أن أكتب عن تلك التجربة في حالة خروجي من المستشفى وأنا أسير على قدمي وليس جثة هامدة، وها أنا أكتب ما شعرت به في تلك اللحظات. فحتى عنوان المقال حفظته في ذاكرتي حتى لا أنساه، لأنني اخترته تحت تأثير تلك الأجواء، لأن "الابتسامة" التي أعنيها في قولي هي العمود الفقري لكل ما سوف أتناوله في هذه التجربة فهي التي كانت سببًا في أن يظل اسمي حتى في سجل الأحياء ولم ينتقل لورقة أخرى في سجلات الوفيات التي يتم تداولها مساء كل يوم في وسائل الإعلام لأصبح مجرد رقم في سجل ضحايا كورونا. لقد دخلت المستشفى مساء الإثنين الموافق 6 يوليو 2-2- وأنا شبه حي، بينما الصورة توحي بأنني ذاهب بمحض إرادتي لتسجيل اسمي في المرصد اليومي لأعداد المصابين حتى أوفر عليهم البحث عن سبب الوفاة ليتم التصريح بالدفن.. في عصر هذا اليوم كان الدكتور أشرف حاتم وزير الصحة الأسبق ينتظرني في عيادته بالمهندسين ليفحص حالتي بعد أن أرسلت له أختي الفاضلة سهير هدايت الصحفية المخضرمة بالأهرام عن طريق "الواتس آب" مساء اليوم السابق نتيجة الأشعة المقطعية التي كانت توحي بشكل لافت للنظر أن مريضه القديم الذي كان يتولى علاجه منذ قرابة ربع قرن من أزمات ضيق التنفس التي سببت مشاكل في الرئة جعلتها فريسة سهلة لأقل فيروس إنفلونزا.. في تلك الأثناء كان قد علم بخبر إصابتي بالفيروس أخي وصديقي الشهم الدكتور عادل عدوي وزير الصحة الأسبق عن طريق شخص أعتبره أخًا لم تلده أمي فتواصل الدكتور عادل مع الدكتور أشرف الذي كان قراره بالتوجه إلى غرفة حالات حرجة بالعناية المركزة على الفور، فما إن سمعت كلمة مستشفى حتى استدعيت على الفور صورة الفنانة الخلوقة رجاء الجداوي التي كنت من عشاق فنها وجمال روحها، فرفضت فكرة المستشفى، وطلبت منه أن يمهلني حتى الصباح بأي إنقاذ سريع أو علاج مؤقت أتعايش معه في بيتي لأنني كنت قد أيقنت أن الموت قادم وطالما أنها (موتة والسلام) فليكن بدون بهدلة الأهل ومرمطة الذهاب إلى المستشفيات وتشديد إجراءات الخروج، والمضحك المبكي في نفس الوقت أنني في استراحة الدكتور أشرف - وقبل أن يأتي دوري بلحظات - كانت شاشة التليفزيون تعرض صورًا مؤلمة للوضع المأساوي في مستشفيات كاليفورنيا . فاكتملت الصور بأنه (مفيش فايدة)، توجهت إلى البيت وآلام في الرئتين غير محتملة في ظل أجواء معبأة بالخوف على زوجتي ومستقبل بناتي وكيف أكون سببًا في حرق قلب الحاج والحاجة في سوهاج.. اتخذت قرارًا بأن أوحي لهم بانني سوف أذهب إلى المستشفى في الصباح حتى أكون مستعدًا وأخبرت من حولي، بأنني سوف أبدأ على الفور في تنفيذ الروشتة المنزلية، وقبل أن أطلب صديقي شريف سليمان في الصيدلية أسفل المنزل، وجدت الدكتور عادل عدوي يقول لي بصوت حاد وحازم وحاسم ولا ينتظر حتى سماع رد: "انزل على الفور إلى مستشفى المقاولين العرب".. حاولت أكسب أي وقت للمراوغة فاخترعت له حجة الانتظار لحين تناول أي طعام خاصة أنني (على لحم بطني) من الظهر وبعدها سوف أذهب إلى هناك خلال 3 ساعات على أقصى تقدير، وكأنه لم يستمع إلى أي كلمة أو أنه تعمد عدم الرد فاستكمل كلامه: بعد نصف ساعة كلموني من هناك حينما تصل إلى قسم الطوارئ وأنهى المكالمة بقوله تأخير دقائق فيه خطورة وفيه فرصة قوية للفيروس لينتشر ويستولى على مساحات أكبر في الرئة، خاصة أن الأشعة المقطعية قد أظهرت براعة الفيروس في إصابة الرئة في الناحيتين فضلًا عن ذلك فالأوجاع التي كنت أشعر بها توحي على الطبيعة بأن كلامه منطقي.. استسلمت للأمر وخلال نصف ساعة كنت في المستشفى لأجد 6 أطباء يقومون يفحص الحالة كل حسب تخصصه، تزامنًا مع عملية سحب عينات الدم حتى قبل تسلم أوراقي التي تشير إلى انتمائي لمؤسسة الأهرام.. دقائق وكان القرار هو الدخول فورًا إلى غرفة الحالات الحرجة وهي الغرفة التي كان يتم تجهيزها بالفعل بوحدة العناية المركزة في العزل بالمستشفى.. لم أعرف ماذا حدث، ولكن آخر ما ظل يتردد في أذني هو بكاء زوجتي بصوت عالٍ لحظة تحركي نحو الغرفة التي كنت متأكدًا أنني سوف أخرج منها إلى سوهاج محمولًا في إحدى السيارات المخصصة لنقل الموتى. عشت ليلة كما يقولون في الأمثال أسود من قرن الخروب، أقول (عشت) مجازًا لأنها تقال هكذا في مثل تلك المواقف، ولكن الحقيقة أنني لم أكن عائش على قيد الحياة، فالوجع يتزايد كل ثانية، وفي تلك الأثناء سيطر على تفكيري المشهد الرائع في فيلم المخرج العبقري يوسف شاهين ( حدوتة مصرية ) الذي قام ببطولته النجم نور الشريف، وهو مشهد محاكمته بشكل واضح وصريح وهو بين الحياة والموت تحت تأثير البنج، وكأنه يعيش أجواء يوم القيامة، ولكن على طريقة يوسف شاهين.. عشت التجربة بكل تفاصيلها وأنا في دنيا غير الدنيا ووسط أوجاع وآلام وصرخات لم أر مثلها من قبل حتى أثناء علاجي من فيروس سي عام 2012 ب48 حقنة إنترفيرون التي كانت تجعلني أظل طريح الفراش لمدة 3 أيام متواصلة لم أر فيها الشارع كل أسبوع.. هذا الوجع الذي دخلت به غرفة الحالات الحرجة تسبب في أن اثنين من شباب أعضاء الفريق الطبي المسئولين عن رعايتي كانت تنزل الدموع من عيونهما تاثرًا بما يشاهدانه. لم أجد أمامي سوى اللجوء إلى الله.. أتضرع إليه وأدعوه فهو القائل في كتابه الكريم (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) فسأته بكل ما أحفظ من أدعية وتوسلت إليه أن يعينني في هذه المعركة الشرسة التي أخوضها مع مخلوق لا أراه، ولكنه يمتلك أسلحة دمرت الغالبية العظمى من مساحات صدري الضعيف، بل إنه يمتلك أيضًا أدواته التي جعلته يفعل ما يشاء دون رادع، وكأنه يتحرك في نزهة خلوية مستغلًا أنه قد مر 24 ساعة وأنا لا أعرف ما يجرى داخل جسمي، لأنني لم أكن أعلم أصلا أنها إصابة بكورونا، اعتقادًا من أنها مجرد نزلة برد من النوع الشديد، وقتها طلبت من صديقي وأخي الغالي الدكتور محمد سعد الذي أتعامل معه باعتباره أحد أفراد الأسرة أن يكتب لي روشتة لعلاج هذا البرد الرهيب، فقرر بالفعل ومن باب الاحتياط أن أتناول أدوية بروتوكول علاج كورونا ، لحين عمل أشعة مقطعية. تضرعت إلى الله أن يزيح عني هذه الغمة، دعوته بكل اسم سمى به نفسه ورجوته بجاه حبيبه المصطفى "صلى الله عليه وسلم" وبآل بيته الأطهار، وخاصة السيدة نفيسة التي على الرغم من تعلقي بها إلا إنني خلال الشهور الأخيرة كلما هيأت نفسي للذهاب إليها أفاجأ بظرف قهري يمنعني من الذهاب لزيارة مقامها الطاهر، وهو ما يفسره لي دائمًا صديقي عاشق آل البيت (سمير السيد) بأن هناك تقصير ما من ناحيتي.. لا أعرف كم من الوقت مر وأنا على هذا الحال، ولكن الذي أتذكره جيدًا أنني كنت أنتظر الرد.. انتظر أى إشارة تقول لي إن الله قد استجاب لدعائي حتى استمر فيما بدأته وتعلقت به لأنني ببساطة شديدة لو لم أحصل على المدد فسوف أموت، خاصة أن الفيروس قد قارب على الانتهاء من مهمته في السيطرة التامة على كل شيء وتنتهي المعركة بخسارة فادحة أقل ما فيها بالنسبة لي أنني سوف أحمل لقب (الراحل)، ويصبح اسمي على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بأهلي وأصدقائي على الفيسبوك متوجًا بكلمة (المرحوم).. كما قلت لا أعرف كم من الوقت مر وأنا على هذا الحال في تلك المعركة الشرسة التي بدأها الفيروس، وكان هو صاحب الطلعة الأولى فيها، والتي أعتقد أنه كان يعلم جيدًا كيف ستنتهي لصالحه، لأني كنت حتى هذه اللحظات لا أمتلك شيئًا أدافع به عن نفسي سوى بروتوكول العلاج الذي بدأت في تنفيذه فور دخولي العناية المركزة.. فجأة سمعت صوتًا يناديني باسمي ففتحت عينيِّ لأجد الدكتور حسين خميس رئيس وحدة الحالات الحرجة بالعناية المركزة ممسكًا في يده عدة أوراق.. فتحت عينيِّ وأنا مكبل بأسلاك الأجهزة المتصلة بكل جزء في جسمي والتي ترصد كل صغيرة وكبيرة، وطلب مني ارتداء الماسك، وشرح لي كيف أتحدث معه عن بعد وفق الإجراءات الاحترازية.. نظرت إليه ورأيت ابتسامة نقية خلف الماسك الذي يغطي وجهه، ولمعانًا صادقًا في عينيه واستغرابًا شديدًا على ملامح وجهه ممزوجًا بحالة من الصدق الشديد، وهو يقول: "إنت مين.. إللي قدامي ده مش ممكن يكون الشخص (المنتهي) إللي في الأشعة المقطعية التي دخل بها المستشفى أمس".. قلت له: (كلمت الله)، وبهذه الابتسامة سوف انتصر على كورونا.. لم يسألني كيف، ولكن أكملت كلامي سوف انتصر على كورونا بسر (بسم الله الرحمن الرحيم).. لأنني تعاملت مع هذه الابتسامة على أساس أنها (الأمارة) التي أرسلها لي الله من خلال قائد عبقري في الجيش المصري الأبيض من أطباء وطواقم تمريض يخوضون حربًا عنيفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. غادر الدكتور حسين الغرفة، وطلب نقلي على الفور إلى غرفة أخرى لاستكمال علاجي بصفتي من الحالات الحرجة، ولكن في مكان أفضل مزود بكافة عناصر الراحة النفسية؛ حمام خاص وتليفزيون وشباك على الشارع، خاصة بعد معاناة عشتها في غرفة الحالات الحرجة بالعناية المركزة رقم 20 التي طبعت بداخلي أسوأ لحظات عشتها في حياتى.. أما الغرفة رقم 4 فكانت كما يقولون (وش السعد)؛ حيث شهدت ولادتي من جديد، ففيها عقدت العزم على الدخول في مواجهة علنية مع الفيروس، وهو ما حدث بالفعل؛ حيث بدأت أبحث بداخلي عن (الطاقة الإيجابية) التي كتبت عنها الكثير من المقالات منذ عدة أعوام، حينما نصحني صديقي وأخي الغالي شريف الشناوي أحد الخبراء القلائل في صناعة المحتوى بأن أكتب في مجال مختلف وبعيد عن السياسة.. مجال ينفع الناس وقد يكون سببًا في رفع الروح المعنوية لمريض بين الحياة والموت فوجدت ضالتي في قضية الطاقة التي بدأت أعرف ملامحها عن طريق صديقتي خبيرة (طاقة المكان) مها العطار وتعمقت في هذا الموضوع وكيف نستطيع أن نصنع لأنفسنا وبأنفسنا "سلاح الإرادة" وهو ما علمتني إياه صديقتي الدكتورة ماجدة سري التي تمدني بشكل دائم بأحدث الأبحاث العلمية في هذا المجال لأستشهد بها في كتاباتي التي أحرص فيها دائمًا على أن تبعث في النفوس الشعور بالأمل. وعلى مدى 48 ساعة شهد القفص الصدري أعنف وأشرس معركة في حياتي، فقد كان الفيروس اللعين قد سيطر تمامًا على أهم مناطق التنفس، فكان الهجوم المضاد بجملة واحدة (بسم الله الرحمن الرحيم) التي كنت على يقين من أن كل حرف بها فيه (سر) يفوق كثيرًا أسلحة هذا الكائن البغيض كورونا، وكلما ارتفعت وتيرة الوجع غير المحتمل شعرت بأن قوة غيبية بداخلي تحثني على الاستمرار، وأن أظل على هذا الثبات خاصة أن مستودعات سلاح الإرادة بداخلي كانت قد امتلأت عن آخرها وعلى الرغم من كل تلك الصورة القاتمة السوداوية التي عشتها لحظة دخولي المستشفى إلا أن كل ذلك تبدد وأنا أرى الدكتور حسين يأتي لي ذات صباح في غرفتي الجديدة التي تحمل رقم 4 ليطمئن على حالتي ويقول لي مبروك النتيجة أصبحت سلبية.. أنت هزمت الفيروس باستجابتك للعلاج الذي يتم تزويدك به بشكل مكثف جدًا، وفوق هذا فهو بفضل تمسكك بالعزيمة ويقينك بأن الله سوف ينصرك لتعود إلى أهلك، ولقبني بالمريض "الجدع"!.. هذا الرجل بتلك الابتسامة استطاع أن يتفوق على بروتوكولات منظمة الصحة العالمية؛ لأنه أضاف إليها عقارًا من نوع خاص هو الطاقة الإيجابية والعلاج النفسي للمريض أثناء العلاج، وليس كما يحدث عادة بأن يتم علاج المرضى نفسيًا عقب تعافي المريض، فوجهة نظره في هذا الشأن أن المريض لو لم يتمتع بدعم نفسي وبطاقة إيجابية أثناء المرض فما فائدة هذا الدعم وهو أصلا قد لا يصل إلى مرحلة الشفاء، خاصة حينما يكون المريض قد وصل إلى تلك الحالات الحرجة.. وبالفعل انتصرت على كورونا الذي أصبح هو في عداد الموتى وليس أنا، وكتبت زوجتي (أمل علوي) على الفيس بوك تهنئ نفسها وتهنئ أحبائي بأنني انتصرت في المعركة مع كورونا، ولكن كانت المفاجأة في نفس اليوم.. أن كورونا كان أخطر مما توقعت فقد انتهى انتهى بالفعل وذهب بلا رجعة، ولكن ترك ميليشياته تعيث في الرئتين فسادًا، فاستيقظت صباح اليوم التالي على مفاجأة مدوية.. ستكون موضوع المقال القادم إن شاء الله. أعتذر عن الإطالة.. فالتجربة مريرة وتداعياتها لا تزال مؤلمة حتى هذه اللحظة.