عاد سد النهضة إلى مجلس الأمن فى جلسة تاريخية بكل المقاييس فنحن أمام واحدة من أهم القضايا فى تاريخ نهر النيل وعلاقة مصر بهذه الأزمة التى تشهدها لأول مرة فى تاريخها.. كانت جلسة عاصفة وأبلى فيها وزير الخارجية سامح شكرى بلاء حسناً، وكان ملماً تماماً بملف القضية بكل تفاصيله ابتداء بالمخاطر التى ستلحق بمصر والسودان وانتهاء ب الموقف الأثيوبى الغريب الذى لا يضع فى حساباته حقوق ومصالح الأطراف الأخرى.. ربما كانت المرة الأولى التى تطرح فيها مصر والسودان قضية سد النهضة أمام العالم بهذه الكثافة وهذا الانتشار أن يعرف العالم لأول مرة حقيقة هذه الأزمة وحدود هذا الصراع، وكان ذلك انجازاً كبيرا يتحقق لأول مرة على المستوى العالمى.. على الجانب الآخر فإن الوزير سامح شكرى عرض القضية ببراعة ودقة فى كل التفاصيل ابتداء بموقف أثيوبيا فى كل مراحل التفاوض طوال عشر سنوات وانتهاء بكل الآثار السيئة المترتبة على إقامة هذا السد بالنسبة لمصر والسودان.. لقد نجح مجلس الأمن فى أن يمنح مصر والسودان فرصة لتوضيح المواقف وكشف الموقف الإثيوبى وضرورة أن تلتزم إثيوبيا بعدم تخزين المياه إلا بعد توقيع اتفاق مع مصر والسودان حول شروط التخزين من حيث الوقت والكميات والالتزامات تجاه دول المصب مصر والسودان.. بقدر ما كان سامح شكرى واضحاً أمام المجلس بقدر ما كان ممثل إثيوبيا مراوغاً ومشوشاً وهو يدافع عن الموقف الإثيوبى بكل سلبياته ولم يتردد مندوب السودان فى أن يؤكد رفض مصر والسودان اتخاذ أى إجراءات منفردة من إثيوبيا، خاصة قرار التخزين إلا بعد توقيع اتفاق يضمن حقوق الجميع.. حاول العدد الأكبر من أعضاء مجلس الأمن إحالة القضية إلى الاتحاد الإفريقى لأنه اتخذ خطوات فى التفاوض بين الدول الثلاث، ولا شك أن إلقاء القضية عند الاتحاد الإفريقى قبل عرضها على مجلس الأمن خطوة خبيثة من إثيوبيا فقد اتفق أعضاء مجلس الأمن تقريبا على ضرورة أن يستكمل الاتحاد الإفريقى إجراءاته خاصة أنه كان على مستوى الرؤساء وقرر إنشاء لجان فنية لدراسة الموقف بحيث تقدم تقريرها خلال أسبوعين.. ربما وجد مجلس الأمن فى موقف الاتحاد الإفريقى فرصة لكسب بعض الوقت وان يبقى الخلاف فى حدود البيت الإفريقى ولهذا كانت كلمات أعضاء المجلس بلا استثناء تشير إلى ما حدث فى الاتحاد الإفريقى وان مجلس الأمن لابد أن يمنحه الفرصة لاستكمال المفاوضات من خلاله.. هناك ملاحظات حول مواقف الدول خاصة فى قضية تخزين المياه وقرار إثيوبيا بأن تبدأ ذلك دون الالتزام بتوقيع اتفاق مسبق يمنعها من ذلك.. هناك دول عارضت ذلك بصراحة ودول أخرى تجاهلت قضية التخزين تماماً وربما طرح ذلك سؤالا ضرورياً حول قضية التخزين وهل تفعلها إثيوبيا.. إذا كان مجلس الأمن قد منح مصر والسودان فرصة كبيرة لطرح قضية سد النهضة أمام الرأى العام العالمى وكشف حقيقة الموقف الإثيوبى فى قضية من أخطر قضايا الصراعات وهى المياه فلا شك أن الاجتماع ترك أثراً دوليا كبيراً ولكن ينبغى ألا ننتظر الكثير بعد ذلك.. ما أكثر المواقف والقرارات الدولية التى اتخذها مجلس الأمن فى قضايا كثيرة ولكنها بقيت حبراً على ورق وأكبر دليل على ذلك قرارات المجلس وتوصياته فيما يخص القضية الفلسطينية.. إن الواضح أمامنا الآن أن إثيوبيا مازالت تماطل وتراوغ ويبدو أنها تصر على موقفها ولن تبالى بقرارات دولية أو افريقية.. لقد انتهت من بناء السد وأصبح الآن حقيقة أمام العالم كله وحين عرضت القضية على مجلس الأمن لم تتراجع عن مواقفها السابقة التى اتخذتها حين رفضت استكمال مفاوضات واشنطن تحت رعاية أمريكية مع البنك الدولى ثم أكدت موقفها أمام مجلس الأمن فى وجود الدول الأعضاء الخمس وكانت آخر شواهد سوء النية عند إثيوبيا أن وزير الخارجية الإثيوبى لم يحضر الاجتماع واكتفت إثيوبيا بمندوبها فى مجلس الأمن رغم حضور وزير خارجية مصر.. إن اجتماع مجلس الأمن كان انجازا دعائيا كبيرا لمصر والسودان ولكنه لا يتجاوز حدود الإعلام فلم تغير إثيوبيا موقفها ولم يحدث ما توقعناه من مجلس الأمن فى صورة قرار أو توصية ومازلنا واقفين أمام سد أقيم ومفاوضات لم تصل إلى شيء وتضارب بل وتعارض كامل فى المواقف حول قضية تمس حياة الشعوب.. ينبغى ألا نبالغ فى نتائج اجتماع مجلس الأمن فلم يحسم شيئا ولم يتخذ قرارا ولم يغير شيئا فى التعنت والتحايل الإثيوبى وربما سيكون ذلك سبباً فى أن يزداد الموقف الإثيوبى مراوغة ورفضاً وتشدداً.. كان من حسنات هذا الاجتماع أن موقف مصر والسودان كان موقفا واحداً فى كل المطالب والتفاصيل ولا شك أن جبهة مصر والسودان الموحدة قد أعطت للقضية أبعاداً أخرى وهذا أيضا إنجاز كبير.. إن الجميع الآن بما فى ذلك مجلس الأمن سوف ينتظر ما تسفر عنه الأحداث والقرارات والنتائج فى الاتحاد الإفريقى وإن كان من الصعب أن يتنبأ أحد بذلك، خاصة أن مواقف الدول الإفريقية فى قضايا المياه لا تختلف كثيراً ولن يكون غريباً أن تصدر من الاتحاد الإفريقى قرارات لا تتسم بالحسم والموضوعية ولكن لا أحد يستطيع الآن أن يقرأ صورة المستقبل.. إن الرهان الآن بين إثيوبيا ومصر والسودان من يسبق الآخر هل تتسرع إثيوبيا وتبدأ تشغيل السد وتخزين المياه أم تلجأ إلى قدر من الحكمة وتؤجل قرارها حتى يصدر الاتحاد الإفريقى قراراته.. إن إثيوبيا قد تعيد مسلسل التأجيل والمراوغة وتدخل بالمفاوضات فى سرداب جديد مظلم بدأته من عشر سنوات مضت.. لا أدرى هل يتوقف كل شيء الآن بعد أن انتهى اجتماع مجلس الأمن وأحيلت القضية إلى الاتحاد الإفريقى وما الذى يضمن أن يحسم الاتحاد آخر فصول القضية، هل تتوقف مصر والسودان عن كل شيء الآن أم أن هناك إجراءات يمكن أن تجعل إثيوبيا تعيد النظر فى تعنتها.. حتى الآن لم تستخدم مصر والسودان وسائل ضغط على الجانب الإثيوبى.. مازالت الاستثمارات العربية خاصة فى الزراعة والثروة الحيوانية تنتشر فى كل ربوع إثيوبيا وهو جانب لم يتحدث فيه أحد ولا أحد يعلم هل سحبت دول الخليج شيئا من استثماراتها، هناك مليارات من الدولارات للدول والأشخاص ومن حق مصر والسودان أن تطالب بسحب هذه الاستثمارات، لأنها ستقوم على مياه النيل التى يعيش عليها شعبان عربيان مصر والسودان.. فى الأسابيع الماضية بدأت إثيوبيا تتحرش بالجيش السودانى على الحدود، وقد ترى أن الصراع مع السودان يمكن أن يدخل بقضية سد النهضة إلى مواجهة أخرى بين إثيوبيا والسودان وتتحول القضية من صراع على المياه إلى صراع على الأرض والحدود.. هناك من يرى أن وراء إثيوبيا أطرافا تشجعها منها تركياوقطر وإن كان ذلك صحيحا فإن مصر قادرة على قطع يد تركيا فى ليبيا والبحر المتوسط، ولابد أن تتخذ دول الخليج السعودية والإمارات والبحرين إجراءات حاسمة لقطع يد قطر ابتداء بتمويل الإرهاب وانتهاء بالقوى الأجنبية التى تهدد الخليج كله وتقيم قواعدها فى الدوحة ابتداء بتركياوأمريكا وإيران وإسرائيل.. إن الشيء المؤكد هو ضرورة البحث عن بدائل تعيد إلى إثيوبيا توازنها حتى لا تصل الأمور إلى مواجهات لا أحد يعرف مداها، أن لدى مصر والسودان أشياء كثيرة يمكن اللجوء إليها فى هذه المواجهة هناك دول للجوار ومصالح مشتركة وعلاقات اقتصادية، وهذه جميعها يمكن أن تكون وسائل ضغط حتى تدرك إثيوبيا أنها لا تعيش وحدها وان النيل نهر للجميع.. فى اجتماع مجلس الأمن وفى كلمات ومواقف الدول لم تكن المواقف على درجة كافية من الوضوح، خاصة فى الدول الثلاث الكبرى أمريكا والصين وروسيا.. وهنا لابد أن نمد جسوراً سريعة مع هذه الدول خاصة أنها تستطيع أن تتخذ مواقف مؤثرة مع إثيوبيا، لأن منها من يمول السد ومن يبيع السلاح ومن يقدم خدمات اقتصادية وسياسية يعرفها الجميع.. لن يكون اجتماع مجلس الأمن رغم نجاحه إعلامياً أخر الجولات هناك مواجهات أخرى وأوراق غامضة ربما تطرحها إثيوبيا فى أخر مفاجأتها وهى أنها تريد بيع المياه وهذه قضية أخرى..