هنالك حيث الجبال الخضراء ، أو عند شاطئ البحر تحت سماء زرقاء، يحلو المشى واستنشاق الهواء بعمق.. فإن لم تسِرْ بقدميك سرْ بخيالك. إن تعذّر البحر والجبال والهواء النقى والسماء صافية الزرقة، إن تعذّر الخروج من البيت أصلاً، فإنك تستطيع- مثلي- أن تزور بوجدانك وقلمك، أو بعينيك، ونظارة القراءة إن كان بصرك كَلّ بعض الشيء بفعل الزمن، تزور ما شئت من بلاد الحقيقة والخيال . قارئاً أو كاتباً أو لاجئاً لخيالك دقيقة أو دقيقتين تبتعد فيهما مؤقتاً عما يحيطك من هموم وتوتر ومخاوف، وكأنك تحاول تنظيم أنفاسك وتستنشق بعمق حالماً بأريج البحر والأشجار والهواء الذى لم يطله التلوث بعد، فى مواطن الجمال البكر و الطبيعة العذراء ، حيث توجد رئات خضراء وزرقاء تهديك من الأكسجين ما يُسكرك سكرة الصحة والعافية. حين تخنقك الجدران وطول المكوث، هاجر بخيالك وعقلك، لدقائق أو ساعات، ريثما تستعيد اتزانك وهدأة روحك. اعتبرها دعوة للقراءة، أو لارتياد عوالم ورؤى تخرج بك من أسر السقف الخفيض إلى آفاق رحبة. فالحمد لله الذي خلقنا قادرين كبشر على التكيف والمرونة فى وجه الأزمات. والحمد لله أيضاً على اللغة العربية ، التى تملك من النصوص الجميلة، وبعض الترجمات الجيدة من لغات أخرى إلى لغتنا، ما يكفى لقراءة تمتد مئات السنين، لا بضعة أشهر أو أسابيع يضطر فيها بعضنا للبقاء فى المنزل. ما تبقّى من هذه المقالة موجّه بالذات لأولئك القراء الذين لم يتعمقوا بعد في بحور الأدب، لحداثة سنهم أو لأسباب وظروف أخرى منعتهم من ذلك، إذ يحلو لى الآن أن أتذكر فى صحبتهم بعض ما أحببت من دُررنا الأدبية، وأشركهم معه فى تلك الذكريات، فمن يدري، ربما أغراهم هذا بالاغتراف من النبع الأصلي، والتزود منها بما يبل عطشهم حين يشتد القيظ فى صحراء الحياة، فيبتردون ويسبحون في غدرانها، ويتنسّمون هواءها الشافى حين تعز النسمة المنعشة. فما الجمال، الفني والأدبي، أو الطبيعى الذى خلقه الله، إلا ذلك النَّفَس العميق الذى يداوى اضطراب النفْس وشيخوخة الوجدان ويُحِل السلام فى الروح المتأزمة.. أول ما يرد إلى ذهني الآن رواية عودة الروح لتوفيق الحكيم. وأظن أن من لم يقرأها منا، ربما شاهدها فى التلفاز فى نسختها الممسرحة التى قُدمت وصُورت فى الستينيات، أو فى المسلسل التليفزيونى المستمد منها فيما بعد. عودة الروح هي النافورة الأم التي خرجتْ منها وبها الرواية العربية. ربما سبقتها زمنياً بعض الأعمال الروائية المكتوبة بالعربية، إلا أنها الرواية الأم؛ بمعنى أنها أول عمل أدبى مصرى وعربى عظيم فى هذا النوع الأدبي المستحدث على تراث العرب: الرواية. ف عودة الروح، التى انتهى الحكيم من كتابتها فى باريس عام 1927، تقدم شخصيات حية، بخفة ظل وشاعرية وبحوار عاميّ ممتع وجديد على الأدب، باعتبار زمن نشر العمل، فى حكاية تجمع بين الواقعية والمصرية القح وبين الرمزية. والعمل كله طفرة أدبية وثورة فنية استلهمت أجواء ثورة 1919 التى امتدت حتى عام 1923 وعودة سعد زغلول من المنفى، وما ساد عقد العشرينيات كله من انفجار للروح القومية المصرية، سَجّله توفيق الحكيم بقلمه وهو مغترب عن وطنه فى باريس، فى نص يجمع بين الفكاهة الرائعة ورومانسية ربما كان مصدرها حنين المغترب إلى وطنه. والعنوان يلخص رؤية الكاتب لمصر العشرينيات من القرن الماضي، حيث يراها تنهض من سبات آلاف السنين وتلتفّ حول زعيمها، بعبقريتها المتوارثة من زمن المجد التليد «حيث الكل فى واحد..« وبعيداً عن الرمزية والفلسفة، فإن العمل متعة خالصة نادرة المثال.. وللحديث بقية بإذن الله. نقلًا عن صحيفة الأهرام