أنزل الله هذا الكتاب العظيم فبهر الألباب وسلب العقول والأبصار لما فيه من حق وجلال، فآمنت بعض النفوس، وعاند بعضها شقاءً وضلا، إلا أن كل واحد من هذين الفريقين وقف مبهوراً من بيان القرآن وعظمته. وهذا الأثر الذي يتركه القرآن في نفوس سامعيه ذكر الله طبيعته ليخاطب الناس جميعاً، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، فهو إذن موعظة من شأنها إذا استقرت في قلب سليم فإنها تهزه هزاً عنيفاً. والإعجاز التعبيري في القرآن الكريم يتمثل أمام العينين وفي المخيلة مشاهد حية ومتحركة للأحداث التي تسردها الآيات، ومنها هلاك الأمم التي أغواها الشيطان منها، في قولهِ تعالي: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). ذكر الحسن، والقرطبي: أن إبليس يقف يوم القيامة خطيباً في جهنم علي منبر من نار يسمعهُ الخلائق جميعاً، وقيل أنه يخطب خطبته هذه بعدما يسمع أهل النار يلومونه ويقرعونه على أن أغواهم حتى كان مصيرهم جهنم، أي: لابد من حركة يتصورها المرء لتسبق قول الشيطان إنها حركة الاتباع والعبادة له، ذلك أنهم تشاورا فيما بينهم واتفقوا علي محاسبته ومطالبته بتنفيذ وعوده فتدافعوا كالموج يطالبون الشيطان أن يبرر لهم هذا المستقر الذي آلوا إليه وصرخوا بملء أفواههم: أيها الشيطان أي: "إبليس" أين ما وعدتنا؟! أين ما زينت لنا؟! أين ما أقسمت لنا من صدق القول، وصواب الحديث؟! إنهم يصطرخون فيها ليس صراخاً، إنه اصطراخاً والزيادة في المبنى، تدل على زيادة في المعني، إما أنهم أخذوه ودفعوه دفعاً حتى أقاموه فوق منبر من نار، وإما أنهُ تصاغر وأطلق كلماته هذه محاولاً قدر استطاعته لكي يُخفي خزيه وعاره، ولم يبق له عذر فقد قضي الأمر ونزل الناس إلي منازلهم هو وحزبه في النار والمؤمنون الذين اتبعوا الرُسل في الجنة. ويخبر الله تعالي عما خاطب به إبليس أتباعه بعدما قضي الله بين عباده فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدراكات من النار، فقام إبليس لعنة الله عليه يومئذ خطيباً ليزيدهم حزناً إلي حزنهم وغبناً إلي غبنهم وحسرة إلي حسرتهم،..فقال: "إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ " أي: وعدكم على ألسنة الرسل والأنبياء في اتباعهم للنجاة والسلامة، وكان وعداً حقاً وخبراً، وأما أنا فوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، ثم قال: "وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ" أي ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة فيما وعدتكم به "إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي" بمجرد ذلك هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه "فَلَا تَلُومُونِي" اليوم "وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ" فإن الذنب لكم فخالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل "مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ" أي: بنفعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه "وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ" أي: بنافعي وبإنقاذي مما أنا من العذاب والنكال "إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ" قال ابن جرير: يقول - إني جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل، وهذا الذي قاله هو، الراجح كما قال تعالي: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) (الأحقاف5) أي: عبد أضل من عبد يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب له يوم القيامة، يقول: لا تجيب دعاءه أبداً فهي أصنام لا تسمع ولا تُجيب ، وقال تعالي: (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (سورة مريم82)، (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ)، أي: يكفرون بعبادة الأوثان. عن بن عباس يقول في: (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي: قرناء يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً. وحذرنا المولي عز وجل من اتباع الشيطان في قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ). ويكفي شهادة الخصوم بصدق القرآن وصدق النبي محمد "صلي الله عليه وسلم". فيقول الفيلسوف الإنجليزي المشهور (برناردو شو) لقد كان دين محمد موضع تقدير "عالٍ" لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة، وأنه الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة، وأرى أنه يجب أن يُدعي محمد "منقذ الإنسانية".