تعرفت على الصحفي صالح مرسي عام 1956، كان صديقًا لزوجي، وبالتالي ارتبطت عائلتانا بصداقة، دعمتها فيما بعد عضويتنا في التنظيم الطليعي؛ التنظيم السياسي لعبدالناصر. كان صالح مرسي صحفيًا بحكم المهنة وعضوية النقابة، ولكنه في الأساس كان كاتب قصة قصيرة، تنشر أعماله في عدد من المجلات والصحف، كان شابًا وينتظره مستقبل أدبي لم نكن نعرف، حتى ذلك الوقت على وجه التحديد، قيمته الحقيقية. في ذلك الوقت، كنا كمجموعة أصدقاء مبهورين ومهووسين بجمال عبدالناصر وبتأميم القناة وبأحداث العدوان الثلاثي، وكنا في أحاديثنا لا نتابع ولا ننشغل إلا بما يدور في مصر من أحداث سياسية، وصراعات بين النظام المصري والقوى الخارجية التي تستعد لتعيد السيطرة على مصر وعلى حركة الجماهير العربية المؤيدة والمساندة لها. ثم باعدت بيننا الأيام بحكم الانشغال العام، ولكن استمرت الصداقة على سطح الأحداث، وخاصة في العمل السياسي. ولكن وقع التباعد التام بعد وفاة عبدالناصر، وتصفية تنظيمه السياسي، وتهديد أعضائه، ولكن مع استمرار متابعة الأعمال التي تنشر لصالح مرسي في المجلات المصرية. حتى جاء عام 1987 وفجأة، تألق اسم صالح مرسي على شاشة التليفزيون المصري في مسلسل استقبله المشاهد العربي مع شقيقه المصري بكل ترحاب وتقدير، وحمل المسلسل اسم "رأفت الهجان". في تلك الفترة، كانت شوارع القاهرة تخلو من ضجيجها البشري خلال فترة بثه على شاشة التليفزيون المصري، وقيل إن ذات الشيء كان يحدث في الشوارع العربية؛ كلما بث أي تليفزيون عربي المسلسل. يقال – وهذا صحيح؛ لأنه يحدث لي - إننا ما إن نسمع المقدمة الموسيقية التي ألفها الراحل عمار الشريعي، حتى نهرع إلى الشاشة ونبدأ المتابعة. هذا المسلسل القديم هو ذات المسلسل الذي لم يفارقني، أو الأصح لم أفارقه، في شهر رمضان الحالي، بالرغم من أني رأيته عشرات المرات على شاشة التليفزيون وعلى اليوتيوب، بل وأقولها بكل أريحية إني لم أتابع أي مسلسل آخر على كثرة المسلسلات وتكرارها على الشاشات المختلفة. فبعد مرور 32 عامًا على إنتاج هذا المسلسل لا يزال يحتل مساحة في حياتنا الإعلامية والثقافية، وبالنسبة لي شخصيًا ظل المسلسل الذي أخذني بعيدًا - وبكل سهولة - من كل المسلسلات التي عرضت في رمضان هذا العام؛ لم ينافسه مسلسل آخر. ربما كانت حالة من النوستالجيا التي تصيب الإنسان عندما يشعر ببعض الضيق من حاضره فيلجأ إلى بعض الأحداث السعيدة التي مرت به في حياته السابقة، يتذكرها ويستمتع بها لبعض الوقت ليعود بعد ذلك للحاضر؛ ربما؟ ولكن الذي مسح فكرة النوستالجيا هذه؛ عندما بثت إحدى الفضائيات العربية جزءًا من المسلسل ليعلق عليه الإعلامي مقدم البرنامج "لقد شاهدت هذا المسلسل عشرات المرات ولم أمله، بل إني على استعداد لأتابعه مرات ومرات". عندما تابعت البرنامج عرفت أنها ليست النوستالجيا؛ وإنما هي عبقرية المسلسل التي صاغها المؤلف والمخرج والفنانون وأنتجها التليفزيون المصري، أي ماسبيرو الممثل الرسمي لإعلام الدولة الفاهم والواعي لدور الدولة في الحفاظ على الذاكرة السياسية للمواطنين. وفي واقع الأمر كنا دائمًا ناقدين لإعلام الدولة؛ يعجبنا هذا ولا يعجبنا ذاك، وكنا في أحوال كثيرة نلح في النقد وإبداء عدم الرضا، ولكن أحيانا كنا نرفع رايات الاستسلام إعجابا بما تنتجه الدولة، وما تقدمه لنا من روائع الفنون الإعلامية والثقافية. هل ننسى حلقات "طه حسين" التي قربت المشاهد العادي الأمي من أحد رموزنا الثقافية العالية؟ أو مسلسل "قاسم أمين" الذي عرَّف المصريين جميعًا أن قضية المرأة قضية تسكن ضمائر الرجال الأحرار منذ الزمان البعيد؟ ومسلسلات أخرى مثل "ليالي الحلمية" و"أرابيسك" و"زيزينيا" و"المصروية" و"بوابة الحلواني" و"الضوء الشارد" و"جمعة الشوان".. وغيرها العشرات من الأعمال الفنية الرائعة. كانت كلها فنية راقية، ولكنها في النهاية تخترق تاريخ مصر وتذكرنا جميعًا أننا أبناء شعب حي خلوق يعرف تاريخه السياسي والاجتماعي ويتمسك به. ونعود إلى صديقنا رأفت الهجان؛ أو "ديفيد شارل سمحون"، وصالح مرسي المؤلف، ويحيى العلمي المخرج، ومحمود عبدالعزيز الممثل بطل العمل، وعمار الشريعي الموسيقي العبقري، نبحث عنهم جميعًا فنجد أننا فقدناهم وباتوا في رحاب الله. ولكن يستمر عملهم "رأفت الهجان" عملا فنيًا يدخل المسابقات بعد المسابقات، ودائما ما يقفز إلى المقدمة خاصة إذا جاء شهر رمضان، وحمل معه أعمالًا يصعب الاحتفاظ بها في الذاكرة حتى في أثناء بثها؛ لأنها لا فنية ولا ثقافية ولا أي شيء يذكر. لذا ليس غريبًا أن يتجه المتفرجون إلى فوازير "نيللي وسمير غانم وشريهان" بينما تحتاج المرحلة الحالية إلى تنمية الوعي العام الثقافي والسياسي والاجتماعي؛ بحيث يرفض العقل المصري كل الشائعات التي تحارب بالإعلانات.