جاء هذا الحوار بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة.. مع: أ.د. مبروك بهي الدين رمضان، أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة بكرسي الأمير سلطان للدراسات الإسلامية المعاصرة بجامعة الملك سعود، أكد فيه أن المرأة كانت مضطهدة قبل الإسلام، عند جميع الأمم والشعوب السابقة، إلا أن الإسلام جاء ليغير من ذلك، فقد أحاط الإسلام المرأة بسياج من الرعاية والعناية، وارتفع بها، وقدَّرها، وخصَّها بالتكريم، وحُسْن المعاملة ابنةً وزوجةً وأختًا وأُمًّا، فقرَّر الإسلام أوَّلاً أنَّ المرأة والرجل خُلِقَا من أصل واحد؛ ولهذا فالنساء والرجال في الإنسانيَّة سَوَاء. بداية ماذا يعني اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة؟ هي دعوة من الأممالمتحدة لمناهضة العنف ضد الإناث في العالم، والحقيقة التي لابد أن تتصدر هذا الموضوع هي: أن المتتبع لتاريخ الأمم والحضارات لا يعلم دينًا كرَّم المرأة، ورفَع شأنها، وأنصفَها وأعلى قدرها، من أصحاب المِلل الأخرى، كما أنصفها الإسلام. ومن أراد أن يتأكد من ذلك فليراجع الإرث التاريخي لكثير من الحضارات السابقة ليجد أن له تأثيرًا على الفكر والثقافة، لأن الثقافة تنطلق من معتقدات وإرث تاريخي وتتجدد مع ربطها بالواقع. واليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة، والذي يستمر أربعة عشرة يومًا فقط من كل عام من أواخر نوفمبر إلى العاشر من ديسمبر، وما يأتي بعده في شهر مارس، وما يعرف باليوم العالمي للمرأة، وما تعج به وسائل الإعلام من برامج ومقالات و(تغريدات) و(هشتاجات)، حول العناية بالمرأة، ومناهضة العنف ضد المرأة، يحتاج إلى وقفة.. وتأمل: نعم هي دعوة للعناية والرعاية بالمرأة والمطالبة بمنحها حقوقها الإنسانية والاجتماعية وغيرها. إلا أن طرائق تناولها تشير إلى الحقيقة التي يحرص عليها الكثير من منظمات حقوق المرأة في الغرب التغافل عنها، وهي أنهم يتحدثون عن المرأة من وجهة نظر معتقداتهم وإرثهم الفكري والثقافي، وما مرت به المرأة في حضاراتهم وما دوّنه التاريخ في صحائف سوداء لا يستطيع أحد منهم إنكارها، وما آلت إليه أوضاع المرأة في واقعهم. إذ إن الناظر لحالة المرأة في القرون السابقة، ليدرك أن مما حدثنا به التاريخ من أن المرأة كانت على جانب كبير من الاضطهاد عند جميع الأمم والشعوب السابقة، فقد كانت عند الفرس: ينظر إليها نظرة كلها احتقار وازدراء، وفي الصين: المرأة شيء تافه بالنسبة للرجل، تتلقى الأوامر وتنفذها، وعند اليونان: رجس من عمل الشيطان، وعند الرومان: على جانب عظيم من الذل والاحتقار، وعند الأشوريين: مادة الإثم، وعنوان الانحطاط، وفي الجاهلية سلعة تباع وتشترى ليس لها أي اعتراض على حياة المهانة، وكذلك كانت المرأة السومرية، والبابلية، والأكادية، والساسانية وغيرهم من الشعوب التي كانت لها ما يسمّى حضارات. ولو أرادوا الإنصاف فعلًا لنظروا إلى المرأة في الإسلام فلها شأن آخر، أكثر ضياء، وبهاءً، وعناية، ورعاية، واحترام، وتقدير، لم ولن يسبقه في ذلك إرث تاريخي ولا حضارة قديمة أو حديثة. إلا أن المحتفون باليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة أغفلوا أو تغافلوا عن عمد أو عن جهل ما حظيت به المرأة في ظل الإسلام، ولم يفرقوا بين قيم الإسلام الحضارية، وما يأمرنا به ديننا فيما يخص المرأة، وبين ما يقوم به بعض المنتسبين لهذا الدين العظيم عن جهل أو عمد ما يسيء لهذا الدين العظيم من خلال التعامل الخاطئ مع المرأة. وماذا عن المؤتمرات الدولية والعالمية التي تنادي بحقوق المرأة؟ الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن المستهدف الرئيسي هو (مؤسسة الأسرة)، لأنها أقدم مؤسسة اجتماعية يمكنها التأثير في المجتمعات، فتخرج علينا الادعاءات، مثل: أن الرجل يتسلط على المرأة، ويمارس عليها أشكال القهر، ومن أجل التحرير المزعوم للمرأة فإنهم يرون ضرورة التخلص من الأسرة، واقتلاعها من جذورها، ولو أدى ذلك إلى التمرد على كل القيم الحضارية، والمبادئ الفطرية الإنسانية، والتعاليم الدينية، والأخلاق الاجتماعية، والعقل الصحيح، التي كانت سبباً في قيام الحضارات عبر السنين، مستغلين في ذلك وسائل الإعلام المختلفة والمؤسسات الدولية، وفي مقدمتها المنظمات التي تدّعي ذلك. كما أن المجتمعات العالمية والمنظمات الدولية التي تسعى جاهدة لعولمة الحضارة الغربية، من خلال تقنين عدد من القوانين، أو التوصيات تحت شعار "الحرية والمساواة وحقوق الإنسان" مثل تعميم الشذوذ باسم حقوق الإنسان، والحرية الشخصية، وتقويض بناء الأسرة؛ لأنها في زعمهم أكبر عائق من عوائق التقدم والرفاهية، وبالطبع هذا يخالف عقيدتنا وقيمنا الحضارية. ولو أرادوا الحق والحقوق فعلاً لوجدوا أن الإسلام بقيمه السامية، ومبادئه الراقية، أول من دافع عن المرأة وأنزلها المكانة التي لم تبلغها في ملَّة ماضية، ولم تُدْرِكْها في أُمَّة تالية؛ حيث شرع لها من الحقوق منذ أربعةَ عَشَرَ قرنًا، ما تزال المرأة الغربيَّة تُصارِع الآن للحصول على جزء منه! هل يعني ذلك أن للمرأة في الإسلام ما يفوق حقوها لدى الغرب المعاصر؟ بالتأكيد.. لقد أحاط الإسلام المرأة بسياج من الرعاية والعناية، وارتفع بها، وقدَّرها، وخصَّها بالتكريم، وحُسْن المعاملة ابنةً وزوجةً وأختًا وأُمًّا، فقرَّر الإسلام أوَّلاً أنَّ المرأة والرجل خُلِقَا من أصل واحد؛ ولهذا فالنساء والرجال في الإنسانيَّة سَوَاء، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) النساء: 1، فالإسلام يؤكد مبدأ عدم التَّفْرِقَة بين الرجل والمرأة في القيمة الإنسانيَّة المشترَكة. فالمرأة في الإسلام لها استقلالية شخصية ومالية وفكرية واجتماعية، أعطاها التشريع الإسلامي شخصية قانونية كاملة، لها مطلق السلطة على كلّ ما تملك دون حاجة إلى تدخّل الرجل، أنزل الله تعالى في كتابه أحكامًا خاصَّة بالنِّساء، وأنزل سورةً باسمها، وما ذاك إلا ليُعليَ مِن شأنِها، ويرفعَ مكانتها ويُنصفَها من جور الحضارات والأمم السابقة، يقول عمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه: "والله إنْ كنَّا في الجاهلية ما نعدُّ للنساء أمرًا، حتى أنزل الله فيهنَّ ما أنزل، وقسم لهنَّ ما قسم". والمرأة في الإسلام قسيمةُ الرجل؛ مصداقًا لقول النبي "صلى الله عليه وسلم": "إنَّما النساءُ شقائقُ الرجال"، كما كان "صلى الله عليه وسلم" دائم الوصيَّة بالنساء، وكان "صلى الله عليه وسلم" يقول لأصحابه: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"، لها ما له من الحقوق، وعليها أيضًا من الواجبات ما يُلائم تكوينَها وفِطرتها، وعلى الرجل بما اختصَّ به من واجبات الرجولة، وقوَّة الجلَد، وبسطة اليد، واتِّساع الحيلة، أن يلي رعايتها، يحوطها بقوته، ويذود عنها بدَمِه، ويُنفق عليها من كسب يدِه ولقوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة: 228. كما نَعِمتِ المرأة في الإسلام بوُثُوقِ الإيمان، ونهلتْ مِن مَعِين العِلم، وضربتْ بسَهم في الاجتهاد، وشُرع لها مِنَ الحقوق ما لَم يشرعْ لها في أمة مِن الأُمم في عصْر مِن العصور، فلم تشبهها امرأةٌ من نِساء العالمين في جَلال حياتها، وسناء منزلتها. ماذا تعني المساواة بين المرأة والرجل في الإسلام؟ لقد خلَق الله تعالى النساء والرجال سواء؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات: 13، ولقد أكثر الله تعالى في القرآن مِن آيات تؤكد المساواة بيْن الرجل والمرأة، سواء كانتْ هذه المساواة في التكليف، أو الأمور التي تستطيع المرأةُ أن تشارك فيها الرجل مِن غير أن يؤثِّر على أُنُوثتها، وأنَّ مناطَ التكليف هو الأهلية، والله تعالى لا يُكلِّف إلا بمقدور، فلكلٍّ من الرجل والمرأة أهليةُ الوجوب، وأهلية الأداء، ما دام قد تقرَّر في ذِمَّة كلٍّ منهما الواجبات الشرعية، فلا تبرأ ذمَّة كل منهما حتى يؤدِّي ما عليه مِن واجبات. وقد وضَع القرآنُ الكريم الرَّجل والمرأة على قدمِ المساواة في الالْتزامات الأخلاقيَّة، والتكاليف الدِّينيَّة إلا في حالات مخصوصَة خفَّف الله فيها عن المرأة؛ رحمةً بها، ومراعاةً لفِطرتها وتكوينها. ويتوالَى الخِطَاب في القرآن الكريم، وينصُّ على المرأة لإعطائها مكانَها إلى جانب الرجل فيما هما فيه؛ سواء مِن العلاقة بالله، وأنَّ أمر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مانعٌ من الاختيار، موجِب للامتثال لكِلاَ الجِنسَيْن. وماذا عن الحقوق المعنوية والمالية وغيرها للمرأة؟ لقد أكَّدَ الإسلام احترامَ شخصيَّة المرأة المعنَوية، وسوَّاها بالرجل في أهلية الوجوبِ والأداء، وأثبت لها حقَّها في التصرُّف، واستيفاء جميع الحقوق، كحقِّ البيع، وحقِّ الشراء، وحقِّ الراهن، وحقِّ المرتهن، وكل هذه الحقوق واجبةُ النفاذ، وأطلق الإسلامُ للمرأة حريةَ التَّصَرُّف في هذه الأمور بالشكل الذي تُريده، دون أيَّةِ قيود تُقيِّد حريتها في التصرُّف، سوى القيْد الذي يقيِّد الرجل نفسَه فيها، ألا وهو قيْد المبدأ العام: ألاَّ تصدم الحريةُ بالحق أو الخير. نعلم أنكم ترأستم موسوعة جامعة لحقوق المرأة في الإسلام. فماذا عن هذه الموسوعة؟ جاءت الفكرة في العمل على إعداد موسوعة تُعنى ببيان الحقوق التي شرعها الله تعالى للمرأة في الإسلام، مع التأصيل الشرعي لذلك، كما تعنى الموسوعة بتحرير ما استجد من المطالب الحقوقية والنوازل المعاصرة، وبيان الموقف الشرعي منها. وتهدف الموسوعة إلى التعريف بحقوق المرأة المادية والمعنوية في الإسلام، ونشر ثقافتها من خلال تقديم مادة علمية مُحكَّمة عن حقوق المرأة تتسم بالشمول والموضوعية، مع دراسة النوازل المعاصرة لحقوق المرأة وتأصيلها. وسعت الموسوعة لإبراز وبيان حقوق المرأة في ظل تعاليم الإسلام بدءًا من الولادة وحتى الوفاة، شاملة لحقوقها الإنسانية، والأسرية، والزوجية، والمدنية، والمالية، والاجتماعية، والصحية، والبيئية... وغيرها، لتشمل حقوق المرأة كل جوانب الحياة المتعلقة بها. واشتملت الموسعة على ما يزيد عن (112) حق للمرأة في كافة جوانب الحياة، شارك فيها ما يزيد على (42) من العلماء والباحثين المختصين، وجاءت في (6) مجلدات، ما يزيد على (5000) صفحة، وأشرفت عليها جهات علمية وحقوقية وقانونية، تحت رعاية ودعم من مؤسسة "وفاء لحقوق المرأة" في الرياض، وكان لي شرف رئاسة الفريق البحثي لهذه الموسوعة الكبيرة. للحديث بقية.. ولكن كيف ومتى نرى هذه القيم والحقوق مطبقة في واقعنا؟ الحقيقة المرَّة.. هي الفارق الكبير بين تطبيقات الناس لقيم ومبادئ الإسلام، فترى المبالغات في إقامة الشعائر والعبادات الشعائرية، والبعد والتهاون في التعامل والتطبيقية، وهذا عيب في الناس وليس عيبًا في الإسلام، فالله تعالى أتم هذا الدين وأكمله، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ) المائدة: 3، فالكمال عددي، والتمام نوعي وقيمي، لكن المشكلة الرئيسية أن كثيرًا من الناس لا يطبق قيم وأخلاق ديننا في حياتنا وواقعنا، ولو أن المسلمين امتثلوا وطبقوا قيمهم الحضارية والأخلاقية والدينية في واقعهم لسادوا الدنيا بأكملها، فالعلم والمعرفة بالقيم ما لم يلازمه تطبيق عملي في حياتنا لا جدوى منه ولا فائدة. إضافة إلى دور العلماء وأصحاب الاختصاص من قادة الفكر والثقافة، وعلى رأسها منارة العلم والعلماء الأزهر الشريف، في نشر ثقافة الوسطية والاعتدال، وسماحة الدين، ونبذ التطرف الفكري والثقافي والمادي، والرد على شبهات المدعين بالدين، والمتحزبين من الجماعات والكيانات التي تتناول أمور الدين من غير علم ولا اختصاص، أو وفق مفاهيم لا تتفق مع وسطية هذا المنهج الرباني في كل أمور الحياة. نسأل الله تعالى أن يوفق بلادنا وعلماءنا لما فيه خير البلاد والعباد. أ.د. مبروك بهي الدين رمضان مع المحرر