الجدل البيزنطي هو نقاش لا طائل تحته، يتناقش فيه طرفان دون أن يقنع أحدهما الآخر، ودون أن يتنازل كلاهما عن وجهة نظره، ويُنسب هذا الجدل إلى بيزنطة عاصمة الإمبراطورية البيزنطية؛ والتي عُرفت أيضًا بالقسطنطينية. يُرجع البعض أصول هذا التعبير إلى القرن السابع الميلادي، عندما شُغف مواطنو الإمبراطورية البيزنطية بالجدل اللاهوتي؛ مما أدى بالإمبراطور قسطنطين الثاني إلى إصدار مرسوم إمبراطوري - عام 648م - بحظر هذا الجدل، وفرض عقوبات متنوعة على من يخالفه، وصلت إلى طرد الرهبان والقساوسة من الكنيسة، وفصل موظفي الدولة عن وظائفهم، ومصادرة الأملاك، والعقاب البدني، غير أن ذلك لم يُجدِ نفعًا، واستمر الجدل الديني في الإمبراطورية البيزنطية حتى القرن الخامس عشر. في القرن الخامس عشر الميلادي، وعندما حاصر السلطان العثماني محمد الثاني القسطنطينية، وبينما كان مصير الإمبراطورية بكاملها على المحك، كان مجلس شيوخ المدينة مشغولًا بمناقشة أمور فقهية ولاهوتية لا طائل تحتها، مثل جنس الملائكة (أهم من الذكور أم من الإناث)، وحجم إبليس (هل هو كبير؛ بحيث لا يسعه أي مكان، أم صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة)، وبينما كان الجدل محتدمًا في قاعة مجلس الشيوخ، كان القتال يدور في شوارع بيزنطة بعد أن تمكن جنود محمد الثاني من اقتحام أسوارها، واستطاع العثمانيون السيطرة على المدينة، وقضى الإمبراطور نحبه على أسوارها، ولقب السلطان العثماني بالفاتح. إن هذا الجدل الذي لا طائل منه، هو الذي أضاع إمبراطورية كاملة، لأن أهلها كانوا يعشقون الجدل، ويتركون عظائم الأمور، فماذا كان يهمهم إذا كانت الملائكة ذكورًا أم إناثًا، وماذا يضرهم أن إبليس كبير أو صغير الحجم؟ وأشعر أننا نعيش حاليًا حالة مشابهة لهذا الجدل البيزنطي الذي لا طائل منه؛ فها هو أحد المشايخ يفجر ما أطلق عليه فتنة "الجنس في الجنة" بنفيه وجود علاقات جنسية في الجنة، نافيًا مسألة الزواج من الحور العين، أو التناسل، أو وجود الحيض والنفاس والولادة، و"الاستحلام"، والشهوة، والحاجة إلى دخول دورة المياه. وهو الأمر الذي تسبب في نشوب حالة من الجدل الواسعة في المجتمع المصري، وقد رد عليه علماء آخرون، بأن شهوة الأكل والشرب والعلاقات الجنسية موجودة في الجنة يتلذذ بها المؤمن، بنص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، واستشهدوا بقوله تعالى: "وزوجناهم بحور عين"، و"وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ"، وعن قول رسول الله "يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ قُوَّةَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْجِمَاعِ"، مما يدل على وجود شهوة والجماع، والعلاقة الجنسية؛ بل مضاعفتها في الجنة. وقال العلماء إنه يجب على هذا الشيخ ألا يعمم تصوراته المستقبلية عن الجنة ونعيمها، وطرق العيش فيها على الجميع، مؤكدين أن تحدثه بتلك الطريقة عن الجنة التي هي في علم (الله عز وجل) هو خطأ كبير، وعليه أن يلتزم في تصريحاته فيما يتعلق بها، وأن تكتفي تعليقاته وتفسيراته على الدنيا فقط، وأن يترك الآخرة لله تعالى. مما جعل الشيخ يتراجع جزئيًا عن تصريحاته فقال: "لا ننكر الحور العين، ولكن ننكر الكيفية والمطابقة، ومن ينكر الحور العين في الجنة فهو كافر"، لافتًا إلى أن مصطلح الزواج يختلف عن النكاح في القرآن الكريم، فالعلاقة التفاعلية بين الذكر والأنثى هي علاقة النكاح وهى العلاقة الزوجية الكاملة. وبالطبع أنا لا أكتب هذا لأجادل الشيخ فيما قال، فقد رد العلماء فكفونا، ولكنني أتساءل كمسلم، ماذا يفيدني مثل هذه الفتاوى التي تتناول غيبيات في علم الله؟ فهي لن تزيدني إيمانًا وتقوى، ولن تنقص من إيماني، مهما يكن شكل الجنة فهذه أمور لا يعلمها إلا الله، فقد أعد الله لأوليائه في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأتساءل كمصري، هل مثل هذه القضايا هي التي تشغل بال الرأي العام؟ هل انتهينا من قضايانا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأصبحت لدينا رفاهية شغل الرأي العام في فروع الدين، وإحداث ضجة إعلامية في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالعلم والطب والصناعة والإنتاج والاقتصاد، ولماذا لا نركز على تنمية وبناء الذات ودفع الناس للعمل بعيدًا عن أحاديث الجنس والشهوة في الجنة أو رضاعة الكبير وجماع الوداع أو المساس بأمور المواريث.. وغيرها، حتى تحتل أمتنا ما تستحقه بين الأمم. [email protected]