"إننا نقص حياتنا، و نكتب الكتب، دون أن نقول إلا جزءًا صغيرًا من الحقيقة، وهذا أحد الدوافع التي تدفعني إلى كتابة هذه الحكايات". في كتابه الأبرز "ماذا علمتني الحياة؟"، لا يكتفي المفكر وعالم الاقتصاد الراحل الدكتور جلال أمين، بالعنوان الذي وضعه لسيرته الذاتية، كإطار ينفذ من خلاله إلى سرد قصة حياته الثرية بالأشخاص والأحداث والأماكن والرؤى والتحليلات، وإنما يتجلى العنوان كسؤال حقيقي يطرحه أمين على نفسه، يسعى طوال "الكتاب/رحلته الشخصية" للإجابة عليه. كتاب ماذا علمتني الحياة؟ فهو في ذلك الكتاب، وفي جزئه الثاني "رحيق العمر"، يتناول حياته بعين الناقد، الذي اعتاد على تحليل الوقائع الاجتماعية والاقتصادية، حتى وإن تعلقت بحياته الشخصية، فهو مثلا يقارن نشأته بنشأة والده ثم بنشأة أحفاده وأولاد أحفاده، يراقب التطورات والتغيرات المختلفة بين هذه الأجيال وبعضها البعض، ينقدها ويبحث في الأسباب وراء تلك التغيرات سواء كانت اجتماعية أو سياسية، يقول: "أتساءل ماذا سيكون شعور أبي لو علم أن واحدا من أحفاده سيكسب رزقه من الغناء بالإنجليزية، أغاني تروج لصابون أمريكي مشهور في واحدة من القنوات العربية"؟ تلك المقولة ربما تلخص العديد من الأفكار التي تناولها أمين في كتابيه سواء في رصده لاختلاف الظروف الاجتماعية بين الأجيال أو قضايا الشرق والغرب والعولمة، والتي قدم في كل منهما عددا كبيرا من الكتب. كتاب رحيق العمر والمدهش في هذه السير الذاتية هو أن هناك بعض الأحداث من حياته كرر ذكرها في الكتابين، لكن تناوله لكل منهما جاء من زاوية مختلفة ورؤية مغايرة تماما لما قبلها، وهنا يكمن ثراء جلال أمين الفكري خاصة في التحليل والنقد وهو ما برز بشكل واضح في كتابه الأشهر "ماذا حدث للمصريين"، الذي يعد بمثابة سيرة اجتماعية لخمسين عامًا– في الفترة ما بين 1945 و حتي 1995 - عاش خلالها المصريون أحداثًا وتغييرات هائلة منها الثورة والنكسة والحرب وتعاقب الرؤساء وانتشار التيار الديني والعلاقات الاجتماعية التي تأثرت بكل هذا، فيمكن القول إن "شكل " مصر اختلف كليًا في هذه السنوات كما أوضح لنا الدكتور جلال في الكتاب. جلال أمين وربما يكون ملحوظا بشكل لافت الجرأة التي تكشف عنها كتب الدكتور جلال أمين، ليس فقط في البوح بآرائه التي خالفت هوي المجتمع في أحيان وهوي السلطات في أحيان أخرى، لكن أيضًا في انتقاد ذاته وأسرته، فعلى الرغم من تقديره لوالديه إلا أنه وجه إليهم انتقادات مختلفة، حتى أنه تطرق للجزء "السيئ" من حياته وماضيه بصراحة شديدة ولافتة. وبجانب تمتع الدكتور جلال بتاريخ أكاديمي حافل -حيث تدرج في المناصب العلمية منذ تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1955، وحصل علي الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة لندن، ثم شغل منصب أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق بجامعة عين شمس من 1965 - 1974، ومن ثم انتدب للعمل مستشارًا اقتصاديا للصندوق الكويتي للتنمية من 1974 – 1978، وبعدها أستاذ زائر للاقتصاد في جامعة كاليفورنيا من 1978- 1979، وأخيرًا عاد إلي مصر كأستاذ للاقتصاد بالجامعة الأميركية بالقاهرة- فإنه يتمتع أيضًا بأسلوب أدبي سلس وعميق ربما ورثه عن أبيه الكاتب أحمد أمين، وهو الأسلوب الذي أهله لرئاسة لجنة جائزة البوكر العربية في إحدي دوراتها، والذي قال عنها أمين في آخر لقاءاته التلفزيونية "إنه اندهش" عندما طلبوا منه هذا الطلب وخاصة أنه رجل اقتصاد وليس أديبا، لكنه وافق وقال إنه ربما تكون ذائقته أفضل من بعض الكتاب -علي حد تعبيره- مشيرا إلي أن الكثيرين أعربوا عن مفاجئتهم باختيار الفائز في هذه الدورة إلا أن الأيام أثبتت "صحة نظرته". جلال أمين ولعله حرص دائما علي التأكيد علي "صحة نظرته" فهي الكلمة التي استخدمها كثيرا في كتابه "ماذا علمتني الحياة ؟" ويمكن اعتبار مقولته التالية دليلا على ذلك: "يدهشني الآن أيضًا طول الوقت الذي احتجت إليه لكي أتعلم كيف أن عليّ أن أضع ثقتي لا في الكتاب، مهما بدا جذابًا باسمه أو موضوعه، بل في مؤلفه. وأن أدرك أن هناك بعض الكُتّاب الذين يمكن أن يشعر معهم القارئ بالأمان، فيستطيع أن يطمئن إلى أن أي شيء يصدر عنهم سوف يكون على الأرجح جديرًا بالقراءة". هذا بالضبط ما حاول أن يحققه الدكتور جلال من خلال كتبه وكتاباته المختلفة سواء للصحف كالأهرام والشروق أو للمواقع الإلكترونية. جلال أمين