وضع الكاتب الكبير محمد سلماوي عنوانًا جميلًا لمذكراته هو "يومًا أو بعض يوم" في إتكاء آثر على نص قرآني، ورد مرات، في سور "البقرة" و"الكهف" و"المؤمنون". العنوان برغم الاقتباس إبداعي بامتياز، فسلماوي قاص ومسرحي وروائي، ومذكراته يختلط فيها السرد بالحكايات، والحقائق بالتصورات، والرموز بالصور الفوتوغرافية التي تأتي في مكانها مصادفة، أو ربما في تزامن مقصود ومدهش مع الأحداث الدرامية. محمد سلماوي استخدم العنوان المجازي لمذكراته، ولكنه في الواقع عاش حياة جديرة بالحكي، وبرغم ثرائها فإنه بطولها، وهي بعد جزء أول منها من مولده عام 1945، حتى حادث المنصة عام 1981، كان حريصًا على أن يجد المعنى. وكروائي أخذنا أحيانًا إلى تفاصيل صغيرة، للإجابة عن سؤال: لماذا يكتب هذه المذكرات؟ هل هي المقادير التي وضعته في القلب من الأحداث السياسية والثقافية في مصر.. أم المصادفات التي قذفت به في القضايا الكبرى التي عشناها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؟ لكن سلماوي بدا لي أنه كان يجهز نفسه لأشياء كبيرة، فلا يكتب شاب في مقتبل حياته الصحفية يوميات؛ ليعبث بها في مستقبل الأيام.. هو قطعًا رتب نفسه على حياة حافلة بالشهرة والمجد، وهو يبحث الآن في هذه المذكرات عن أسبابها، وعما حققه منها، وقطعًا إحساسه وشعوره بكم لبث فيها، كما جاء في العنوان، كجزء من علاقته بالزمن. بحث سلماوي أولا عن جذوره العربية؛ لدرجة إجرائه اختبارات الحمض النووي في معمل في ولاية أوهايو.. ثم انشغل بعشبة صغيرة يابسة كانت منتشرة في الصحراء اسمها "كف مريم" أيام كان منغلقا على نفسه، مثل تلك العشبة التي لا حياة فيها. وكان كلما نجح في الإمساك بواحدة منها غرسها بجوار مسقى مائي كان يحيط بمبنى مدرسته الابتدائية في المعادي.. وبعد الزواج وعودته للإقامة في المعادي، وأثناء تمشيته اليومية مر ذات يوم من الجهة الخلفية للمدرسة، بعد سنوات عشر، ليرى في الموقع الذي غرس فيه العشبة، وقد بسقت شجرة، لا يقل ارتفاعها عن أربعة أمتار، هل هي عشبته القديمة، ولما سأل البستاني عنها فيخبره إنها طلعت لوحدها، بيقولوا عليها "كف مريم".. كما بحث سلماوي أو هكذا بدا الأمر، عن مغزى مصادفة غريبة في الهند.. ففي طريق العودة من زيارة تاج محل في مدينة "أغرا" جنوب العاصمة نيودلهي، عرج وزوجته التشكيلية نازلي مدكور على معبد قديم، ليس مدرجًا في برنامج الرحلة، ولم يكن في المعبد سوى ناسك واحد أخذ ينظر إلى سلماوي لفترة من دون أن يتكلم، ثم تركهما ومضى إلي داخل خلوة خلفية، عاد منها بعد لحظات حاملا معه وشاحًا لونه أصفر قان، وقدمه له ببعض كلمات ترجمها المرافق، مفادها أن "هذا الوشاح نمنحه فقط لمن نذرته الأقدار لخدمة الناس، وأنت قيد لك خدمة أقرانك". ولعل سلماوي يقصد "قيض لك" أو "قيد" بمعنى كُتب لك أو عليك.. ولعله أومأ في حكايات غير مباشرة عندما تتلامس صور والدته وزوجته نازلي وعشقهما للرسم وملامحهما المتشابكة والمتشابهة؛ فإننا قد نصل إلى أن سلماوي أحب الوجه والروح القريبين من أمه.. ربما كان ينقص المذكرات قائمة أعلام؛ لكنا حصلنا على قائمة رهيبة من الأسماء والشخصيات التي صنعت الأحداث في السنوات الأربعين التي كتب عنها سلماوي وعن شهادته على وقائعها. أما ما جاء في المذكرات من حكي فهو يأبى على التلخيص؛ لأن علاقة سلماوي بعائلته الثرية وتنقلاتها وأقاربها ومعارفها وخريطة العلاقات بينهم، كان حكيًا صريحًا وبسيطًا، ومنه بالتأكيد حكاية زواجه من دون موافقة العائلتين، وما حدث من اعتراف بالزواج بعد ذلك، أما صراحته فقد كانت حاضرة باستمرار، ولكن بإيحاءات غير صادمة. لقد أفاض سلماوي في شرح قصة عمله في "الأهرام" وهي قصة لها علاقة كبيرة بالمبنى والمعنى والقيادة الكبيرة لمحمد حسنين هيكل.. ثم الحنين المبهر للحجارة والأرواح الملهمة في طبقات المبنى، خصوصًا الدور السادس، والذي كان يعج بكبار كتاب مصر.. لقد زرت هذا الطابق قديمًا للقاءات مع "نجيب محفوظ"، و"لويس عوض" و"غالي شكري" و"يوسف إدريس"... وغيرهم. قراءة الكتاب جعلتني أصعد للدور السادس قبل أيام؛ لأطرق على الأبواب، ولم يرد أحد، فعرفت وجع سلماوي، وكل من يمكن أن يكونوا قد مروا من هنا في ساعة من نهار. أما الذي استحوذ على الكثير من اهتمام سلماوي وتركيزه، فقد كانت تجربة اعتقاله في أحداث انتفاضة الخبز في يناير 1977. وبدت دقة سلماوي وحرصه على تسجيل ما عرفه وما عاشه، وكان التدوين أكثر حضورًا من الذاكرة، فكانت مفكرة اليوميات متخمة بالوقائع، وكان كل من في المعتقل من كتاب وصحفيين يعرف بأمر مفكرته الحمراء، كما كتب فيها "أحمد فؤاد نجم" واحدة من أجمل قصائده وعنوانها "حلقة ذكر".. كما كتب آخرون.. أما علاقة سلماوي بشيخ الكتاب "توفيق الحكيم" الثقافية والعائلية فكانت اكتشافًا، وحديثه عن "البخل" الذي اشتهر به الحكيم ممتعًا، برغم معرفة الجماعة الثقافية به، ولكن أن نعرف أن "طه حسين" كان قريبًا من جائزة نوبل عام 1949، فهو من أحد أسرار الكتاب... الكثيرة..