يسمع الأيرلنديون، خاصة على المستوى الرسمي، هذه الأيام كلاما إسرائيليا غريبا. ومصدر الغرابة أنه يتهم أيرلندا بالعداء التاريخي لإسرائيل. ويستند الاتهام إلى مطالبة أيرلندا تل أبيب بسحب أحد رجال استخباراتها من دبلن بسبب فضيحة تورط إسرائيل في اغتيال قائد حماس محمود المبحوح في دبي مستخدمة جوازات سفر منها جوازات أيرلندية. فتهمة العداء تخالف تاريخ العلاقات القائمة على المصلحة المتبادلة بين البلدين. وكتاب "فيما نجحنا: رؤى عالمية للمعجزة الأيرلندية"، يكشف عن بعض الصفحات الخفية على الكثيرين، في إسرائيل وأيرلندا وغيرهما، من هذا التاريخ. فمنذ البداية، كانت -ولاتزال- عين إسرائيل على جمهورية أيرلندا وتجربتها الفريدة في النهوض من عقود الفقر إلى مكانة بارزة كأحد نمور أوروبا الاقتصادية. وفي مقدمة الكتاب، ضرب المحرران مايكل أوسوليفان، وروري ميللر، مثالا بإسرائيل لعرض استفادة الدول الأخرى من التجربة الأيرلندية. هذه المقدمة مهدت لرؤية يانكي فاتشلر، أحد مؤسسي مؤسسة "بوكباز" الدولية المختصة بالتعلم ومقرها العاصمة الأيرلندية دبلن، حول الدروس المتبادلة بين أيرلندا وإسرائيل. يتابع فاتشلر ما يمكن وصفه بحوار المصالح وتبادل المنفعة بلغا الذروة بين عامي 1999 و2008، حيث نشطت الزيارات المتبادلة على أعلى المستويات بين البلدين. غير أنه خلال العقدين الماضيين عموما، لم يتوقف الاهتمام المتبادل على كل المستويات الاقتصادية بين وزراء ومنظمات الشركات وأصحاب الأعمال ونقابات العمال وغرف التجارة والصناعة. وتنطلق الرؤية الإسرائيلية من التشابه بين الوضعين الاقتصاديين في إسرائيل وأيرلندا في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت الأزمة طاحنة. وفي منتصف الثمانينيات، وضع المجلس الاقتصادي والاجتماعي الوطني الأيرلندي برنامج الانتعاش الوطني الذي أخذ شكل اتفاق الشراكة الاجتماعية بين الحكومة، والشركات أصحاب الأعمال، والعاملين والموظفين من أجل تجميد الرواتب، لتخفيض ميزانية الإنفاق والاستفادة من موارد الدولة في خفض أعباء الدين الخارجي. وحسب الرؤية الإسرائيلية، فإن الدور الخارجي كان مؤثرا للغاية في مساعدة أيرلندا. فالولاياتالمتحدة بشركاتها العملاقة الدولية واستثماراتها، وعضوية الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الانفتاح الاقتصادي العام، جعل نمو أيرلندا الاقتصادي بين عامي 1990 و2000 يتراوح بين 4 و6%، وهو معدل يتجاوز ثلاثة أضعاف معدلات النمو في بقية دول الاتحاد الأوروبي. ورغم أن أشكال المقارنة الاقتصادية بين أيرلندا وإسرائيل تميل بوضوح لصالح الأولى، فإن الإسرائيليين نجحوا، كما يقولون في تفادى أخطاء ومثالب التجربة الأيرلندية. وساعدت الإسرائيليين على ذلك معايشة تفاصيل التجربة. ففي الفترة بين عامي يوليو 1999 وديسمبر 2008 فقط، زار أيرلندا 19 وفدا اقتصاديا، حكوميا -وغير حكومي- إسرائيليا رفيع المستوى. كما أن عددا من كبار المسئولين التنفيذيين في المؤسسات الإسرائيلية زاملوا نظراءهم الأيرلنديين، وتابعوهم وهم يمارسون عملهم ويضعون الخطط ويتخذون القرارات الاقتصادية في أيرلندا. وبلغ الاهتمام الإسرائيلي الذروة بين عامي 2003 و2005، عندما كان بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل الحالي وزيرا للمالية في حكومة إيهود باراك. حينها اعتبر نتانياهو الاقتصاد الأيرلندي هو "النموذج الاقتصادي" الذي يجب أن تسعى إسرائيل للاستفادة منه. الدرس الأول الذي وعاه الإسرائيليون هو دور شركات متعددة الجنسيات الأمريكية وغير الأمريكية. فبدلا من التركيز الكامل على أموال هذه الشركات، انتبهت إسرائيل إلى ضرورة أن يكون وجود هذه الشركات جزءا من الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي. ولذا فإن الإسرائيليين ركزوا على جانب البحوث والتطوير. فالشركات المتعددة الجنسية العالمية مثل، ميكروسوفت موتورولا إنتل، وأمريكا أون لاين (آيه أو إل)، وآي بي إم، وجنرال إليكتريك، وسامسونج، وفيليبس، وجونسون أند جونسون، اختارت أن تكون أنشطة البحوث والتطوير الرئيسية في إسرائيل. وهذا أدى إلى ألا تتأثر إسرائيل سلبيا، كما عانت أيرلندا، من تقلص أنشطة هذه الشركات ما أدى إلى تسريح آلاف من العاملين الأيرلنديين في فروع هذه الشركات في أيرلندا. فبخلاف التجربة الأيرلندية، استفادت إسرائيل كثيرا من التركيز على جانب البحث والتطوير والإبداع. ولذا فإنه في مجال جودة المؤسسات الباحثة العلمية، جاءت إسرائيل في المرتبة الثالثة، بينما احتلت أيرلندا المرتبة السادسة عشرة. كما احتلت المرتبة السابعة عالميا من حيث إنفاق الشركات على البحوث والتطوير مقابل المرتبة السادسة عشرة لأيرلندا. ولذا، فإنه بينما سرّحت مؤسسة إنتل 16 ألف عامل في فروعها حول العالم بما في ذلك أيرلندا، فإنها وظّفت 700 موظف جديد في مراكزها للبحوث والتطوير في إسرائيل. ووسيلة إسرائيل كانت اتباع سياسة حكومة واضحة حثيثة تقوم على دمج الشركات المتعددة الجنسية، وخاصة في جوانب البحوث والتطوير، في الصناعات الوطنية. ورغم أن مؤسسات مثل إنتل، وآي بي إم، وموتورولا، لديها فروع رئيسية كبرى في إسرائيل، فإن معظم أنشطتها تتركز في البحوث والتطوير وليس التصنيع. وإحدى نتائج ذلك هو تكثيف استثمارات الحكومة الإسرائيلية في صناعاتها الوطنية القائمة على التكنولوجيا والمهارات العالية والعلوم. وتقول التقديرات إن 24% من القوى العاملة الإسرائيلية تحمل شهادات جامعية. ولذا فإنه بالنسبة لمعدل براءات الاختراع لكل ألف من السكان، فإن إسرائيل لها نسبة براءات اختراع مسجلة في الولاياتالمتحدة تفوق براءات الاختراع الصينية والهندية والروسية مجتمعة. ورغم أن صادرات أيرلندا التكنولوجية تتجاوز نظيراتها الإسرائيلية بكثير، فإن 70% من الصادرات الصناعية الإسرائيلية هي صادرات عالية التقنية، وهذه أعلى نسبة في العالم. وترتب على ذلك أيضا أن أصبح عدد الشركات الإسرائيلية المسجلة في مؤشر "ناسدك" ببورصة نيويورك، أعلى من أي دولة أخرى من خارج الولاياتالمتحدة وكندا. وعلى المستوى العالمي أيضا، تصنف الجامعة العبرية في القدس في المرتية ال 12 من بين أفضل جامعات العالم من حيث عدد براءات الاختراع، ودورها في تطوير التكنولوجيا الحيوية والبحوث العلمية والتكنولوجيا، وهذه المرتبة تتفوق على جامعات ييل، وأكسفورد، وجون هوبكينز. وعلى مستوى جودة مؤسسات البحث العلمي، تحتل إسرائيل الثالثة عالميا بينما تقبع أيرلندا في المرتبة السادسة عشرة. وتحتل إسرائيل المرتبة السابعة عالميا من حيث إنفاق الشركات على البحوث والتطوير، وتتأخر عنها أيرلندا باحتلالها المرتبة السادسة عشرة. وأحد الأسباب الرئيسية لذلك، هو الإنفاق على التعليم. فبينما تحتل إسرائيل المرتبة الرابعة عالميا فإن أيرلندا تحتل المرتبة ال43. ويرتبط بذلك أيضا، بارتفاع نسبة المهندسين وخبراء التكنولوجيا والباحثين، مقارنة بعدد السكان. وتعتبر إسرائيل من بين أكبر دول العالم في هذا المجال. كل هذه العوامل، جعلت إسرائيل، بشركاتها ومؤسساتها، أكثر قدرة على تحويل الأفكار إلى منتجات وتصديرها. ومقارنة بأيرلندا، فإن إسرائيل نجحت، وتحرص على جعل الاستثمارات الأجنبية المباشرة تقوم على مؤسسات ومشروعات وشركات محلية. وهى بذلك تتجنب مخاطر رحيل الشركات العالمية بحثا عن أماكن أخرى تحقق لها مكاسب أكبر. وعلى عكس ما يحدث في إسرائيل، فإن هذه الشركات طورت برامجها في الخارج ولم تكن أيرلندا سوى مركز للتوزيع. وحتى الشركات الأيرلندية نفسها اعتمدت على هذه البرامج المستوردة ومن ثم لم تضف أي قيمة تكنولوجية لقطاع الصناعة الوطني، ولم تساعد في تنمية الإبداع التكنولوجي. وفضلا عن ذلك، فإن هذا النهج أدى إلى تضاعف أهمية الصناعة في خطط التنمية والنهوض في إسرائيل وهذا لم يحدث في أيرلندا. ويلخص فاتشلر أهمية القطاع الصناعي في التجربتين الأيرلندية والإسرائيلية فيما يلي: في الحالة الإسرائيلية، اتخذت قرارا إستراتيجيا بإنشاء وتطوير قطاع صناعي محلي. أما أيرلندا فإن هناك فرصة ضئيلة لأن يتمكن قطاع الصناعة المحلي من قيادة البلاد للخروج من تعثرها الاقتصادي الحالي. لذلك فإن أيرلندا لجأت إلى استمالة الشركات المتعددة الجنسية الأوروبية والأمريكية. الاستفادة من المغتربين في الخارج، إحدى الدروس التي ينصح الإسرائيليون الأيرلنديين بالاهتمام بها. ويشير فاتشلر إلى أن اليهود حاملي الجنسية الإسرائيلية في الخارج يسهمون بدور مؤثر اقتصاديا في إسرائيل. أما أيرلندا فلديها 70 مليون مواطن مغترب في أنحاء العالم، خاصة في أمريكا، وهؤلاء يمكن أن يكونوا رصيدا لا يساعد فقط في الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية، بل وفي الإبقاء على النمو الاقتصادي لاحقا. هذا ما يمكن أن تستفيده أيرلندا من إسرائيل. فما الذي يمكن أن تتعلمه إسرائيل من التجربة الأيرلندية؟ مجال الاستفادة الأول هو تشجيع المشروعات. فوفق التقرير العالمي لمراقبة المشروعات لعام 2007 الذي يشمل 23 دولة حسب الدخل، تحتل أيرلندا المرتبة الثالثة، بينما تحتل إسرائيل المرتبة الثالثة والعشرين. وتبلغ نسبة انتشار المشروعات مقارنة بالسكان في أيرلندا 16.8% مقابل 7.8% في إسرائيل. ولذلك أسباب على رأسها، سهولة إنشاء المشروعات في أيرلندا. وبينما تستغرق الإجراءات البيروقراطية لإنشاء المشروع في أيرلندا 13 يوما فقط، يستغرق الأمر 34 يوما في إسرائيل. وبينما تقل فترة الحصول على ترخيص رسمي للمشروعات في أيرلندا عن المتوسط العالمي، فإن الأمر يحتاج لأكثر من هذا المتوسط في إسرائيل. وفيما يتعلق بسهولة ممارسة الأعمال وأنشطة المشروعات، جاءت أيرلندا في المرتبة الثامنة عام 2008 بينما كان ترتيب إسرائيل التاسعة والعشرين. القيود القانونية والإجرائية تلعب دورا كبيرا في تحديد مكانة البلدين. ووفق مؤشر مؤسسة هيراتيدج العالمية لأكثر الدول حرية في المجال الاقتصادي لعام 2008، جاءت أيرلندا في المركز الثالث بعد أن كانت في المركز الرابع في عام 2003. وفي قائمة الدول الأوروبية التي تضم 41 دولة، جاءت أيرلندا في المركز الأول. ورغم تحسن موقع إسرائيل من المركز ال 63 عام 2002 إلى المركز ال 46 عام 2007، فإنها لاتزال متأخرة كثيرا عن أيرلندا. وللفساد وسبل مكافحته، تأثيره في التجربة الأيرلندية. فبينما تبلغ نسبة خلو الاقتصاد من الفساد في أيرلندا 74% لا تتجاوز النسبة في إسرائيل 59%. وبالنسبة لتحرر الاقتصاد من التدخل الحكومي، فإن النسبة في أيرلندا تبلغ 65.5% مقابل35.1% فقط في إسرائيل. وخلال السنوات الأخيرة، تولي أيرلندا وإسرائيل اهتماما واضحا، كل بتجربة الأخرى. وهذا ما جعل فاتشلر وغيره من الباحثين والاقتصاديين والخبراء الماليين البارزين في العالم والبلدين يعتقد أن هناك الكثير من الدروس الاقتصادية والمالية التي يمكن للدول الناهضة الاستفادة بها من دراسة التجربتين الإسرائيلية والأيرلندية، وتعاونهما المشترك.