هن فئة من النساء اللائي قررن أن يخفين وجوههن وراء النقاب، ولكن دون أن يشغلن أنفسهن بتلك الخلافات والمجادلات والفتاوى، حول ما إذا كان فرضا أم مستحبا، أم كان عادة أم عبادة؟ فكل هذا وذاك لا يعني هذه الفئة ولا يقلقها. فالنقاب عندهن لا يزيد على كونه يقدم حلا سحريا لإخفاء وجوههن عند ممارسة التسول، أو بيع المناديل الورقية على النواصي وأمام المقاهي وفي إشارات المرور. فأمام مطعم شهير بشارع الهرم وقفت "سيدة"، وعلى يمينها ويسارها طفلان صغيران يقومان بمسح السيارات المنتظرة بقطعة قماش متسخة كنوع من تقديم الخدمة لأصحاب السيارات، المنتظرة من رواد المطعم، بينما تشرف عليهما "سيدة"، وهى تقوم بمساعدة قائدي السيارات الملاكي في الوقوف بسيارتهم، بينما تتقدم إليهم لنيل مقابل الخدمة، التى تطوعت ومعها ابناها بها. "زوجي خرج ولن يعود قريبا، لأنه هارب من حكم حبس في شيكات وقع عليها لضمان تسديد ثمن الثلاجة.. أنا لست متسولة، ولم يدفعنى للعمل في (أنصاف الليالي) سوى أننا ليس لنا مصدر للإعاشة إلا مانفعله، وأنا أظل مع الطفلين حتى قرب الفجر". كانت "سيدة" صريحة جدا، عندما أكدت في سخرية أنها انتقبت لأن مهنتها توصف بالحقيرة، والخدمة التى تقدمها مع ولديها ستار معقول للتسول تحت النقاب، ثم إن كثيرا من الناس يتعاطفون معها لأنها امرأة (تسعى لرزقها بالحلال) وهى أم وفوق كل ذلك فهي منتقبة، أي أنها ملتزمة دينيا وأخلاقيا. ولكن إخفاء وجهها، هو فقط المقصود من النقاب لأن وقوفها فى هذا المكان والتوقيت، يعرضها لمضابقات متعددة، فلو وقفت كاشفة وجهها، فسوف تتعرض لتلك النوعية من الرجال، الذين لا يرحمون النساء ولا يتركونهن، خاصة أن شارع الهرم كشارع سياحي معروف بنوعية النساء اللائي يقفن في جوانب الشارع ليلا. وكذلك هناك نظرات جارحة أخرى، من بعض الناس الذين يرفضون التسول المرفوض قانونا. وحتى لا ترى "سيدة" تلك النظرات الجارحة، وتجنب كل أنواع المضايقات، قررت إخفاء وجهها بالنقاب، فكأنها انتقبت حتى لاترى هي أحدا، وليس لأن يراها هذا الشخص. أما تلك السيدة المنتقبة، التى تمر على المقاهى والمطاعم بطول رصيف شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين، فهى لا تكلم أحدا ولا ترد على أحد، ولا تنطق ببنت شفه. وربما ترى أن صوتها عورة يجب إخفاؤه مثل وجهها، وتكتفى فقط بأن تمد يدها للجالسين على الموائد الخارجية بالمقاهي والمطاعم، لتعرض بيع علب المناديل، وتتلقى الثمن بيد أخفاها قفاز أسود بالصمت نفسه، ولكن هناك انكسارا ملحوظا في عينيها، اللتين لا تكادان تظهران من فتحة النقاب، الذي يظهر منها فقط هو خطواتها الثقيلة، والتي تبدو حزينة كنظراتها، وهي تتنقل بين الموائد، ترفض أي محاولة للحديث معها. أما تلك المنتقبة التى تقف في إشارة المرور، بشارع مصطفى النحاس بمدينة نصر فهي تتحدث بطلاقة، وتمد يدها للتسول دون بيع أي شيء، ولكن فتحة النقاب على وجهها واسعة جدا، تظهر عينيها وأنفها بوضوح. ولكنك لا ترى أسنانها وهى تضحك بصوت عال، وتدعو لك بطريقة ضاحكة, وفوق ذلك قد تتحفك بنكتة قصيرة، أو تعليق ساخر لتكسب تعاطفك قبل حسنتك التي ستمنحها إياك، عندما تعطيها النقود. هي كذلك صريحة جدا عندما تقول: " النقاب سترة لمن هن مثلنا، فالشحاتة مذلة نتفاداها بالنقاب، ولكنه يعطينا تعاطفا أكثر من أهل الخير، " ثم تردف قائلة، دون أن تخفف من طريقتها الساخرة: " أهو كله لله ". ولكن المطلعين على أسرار عالم التسول، يعرفون جيدا أن لكل مكان متسولين ومتسولات، لا يسمح لغيرهم وغيرهن بالوقوف في الشوارع. فعملية التسول نفسها لا يقدر عليها إلا المحترفون والمحترفات، وهو عالم ليس بالبساطة التى تبدو، فجميع الأماكن في القاهرة والمدن الكبرى محجوزة سلفا، منذ أختيرت لممارسة المهنة، ولا يمكن لأحد أن يلج عالمهم إلا بإذن من القائمين على تنظيم مافيا التسول. لأن كل المواقع الصالحة للتسول، مهما كانت محجوزة سلفا وموزع عليها أعضاء المافيا البارعين في أداء أعمالهم، ومواجهة المواقف والمتاعب الملازمة للمهمنة. ولا تتورع هذه المافيا عن اللجوء لأي وسيلة لكسب تعاطف الزبائن، مهما كانت فمن ادعاء مرض أو اصطناع عاهة أو استغلالها أو حبك قصة، للظروف القاهرة وحمل الأطفال الرضع والصغار، كل ذلك له ثمنه. ومع أن الدين الإسلامي، يقف ضد التسول، وقد وصف نبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم) المسألة في حديثه الشريف، بأنها نكتة سوداء في الوجه يوم القيامة، إلا أن بعض المتسولات، قررن أن يخفين تلك النكتة وراء النقاب.