حين أقدم عاطل صباح اليوم الإثنين، على تنفيذ حكم الإعدام فى نفسه، وكتب نهايته المأساوية بيده، بالانتحار من أعلى برج القاهرة، كان لزامًا علينا أن نتساءل: ما الدافع الخفى الذى يجعل الإنسان ينتقم من نفسه، بنفسه؟ وجاءت إجابات الخبراء بعبارة واحدة مفاداها :"ابحثوا عن الظروف المادية والاجتماعية، وانقلوا الواقع الأليم لنواب برلمان الثورة". نعم رحل بوعزيزى، خريج الجامعة، غير أن رحيله أضرم النار فى صدور الملايين، بالعالم العربى، كأنه قد سلّم تلك الشعلة الأغلى فى تاريخنا المعاصر لكل المحرومين والمهمشين من حولنا، ليستيقظ ذلك المارد المسمى ب"الضمير" ويوقظ معه كل القيم والأخلاق والسلوكيات التى من شأنها أن ترتقى بواقعنا نحو الأفضل. يمر عام على تلك الحادثة المأساوية، يحتفل أقرباء "بوعزيزى" فى الوطن التونسى بانقضاء عام كامل على هروب رئيسهم "بن على"، ولكن، بنظرة أكثر تأنيا للواقع الذى رفضه كل الشباب العربى وثار عليه، تدفعنا للبحث عن الأسباب التى قد تجعل محبطين جددا يفكرون فى حرق أنفسهم. فى مصر، مرّ نبأ انتحار "سيد مجاهد" مرور الكرام، بعدما أضرم النار فى جسده، لمروره بضائقة مالية، كان سببها ركود السياحة فى مصر عقب الثورة، حيث كان يستأجر 6 بازارات بأحد مولات مدينة شرم الشيخ، وعجز عن سداد إيجارها، ومع رفض صاحب المول تخفيض الإيجار، وقيامه بقطع التيار الكهربائى عن البازارات الستة، تراكمت الديون علي سيد، فما كان منه إلا أن أشعل النار فى نفسه، ولكنه نجا من الموت بعد أن أنقذه بعض المارة ونقلوه إلى مستشفى شرم الشيخ الدولى. خبر آخر تاه وسط ضجيج "المليونيات" و"مولد" البرامج الفضائية، فى يونيو الماضى خلاصته أن عامل نظافة، أثناء سيره برفقة زوجته على كوبرى الساحل، قام بإلقاء نفسه فى النيل نتيجة حالة نفسية سيئة ألمت به، جراء وضعه الاقتصادى المتدهور، لكن الغريب فى الأمر، أن الرجل كان يتحدث مع زوجته عن "المصروف"، ثم غافلها وانتحر. أيضا، أطلق رجل الأعمال المصرى، عدلى أيوب، النار على نفسه، منهيا حياته بعد أن كتب وصيته الأخيرة لزوجته، مرجعًا فيها نيته الإقدام على تلك الخطوة، إلى الحالة السيئة التى يعانى منها بعد الخسائر المستمرة التى تمر بها شركته "ميدويست" للطيران – جراء أحداث يناير 2011- وتعثرها فى سداد مديونياتها لسلطات الطيران المصرية. حالات الانتحار لم تقتصر على الفترة التى أعقبت الثورة المصرية، وحتى التى سبقتها، فقد تزايدت معدلاتها باضطراد مستمر فى السنوات الخمس الأخيرة، علاوة على سبع محاولات شهيرة سبقت الثورة بأيام قليلة، وهذا ما أكده الدكتور "السيد يسين" المفكر والخبير فى علوم الاجتماع، الذى قال إن الانتحار موضوع اهتم به علم الاجتماع اهتماما كبيرا، لكن يجب أن نعرف أنه عندما نناقش مناقشة ظاهرة معينة اجتماعيا لابد أن تكون ظاهرة عامة، وليست حوادث فردية، والملاحظ أن ظاهرة الانتحار فى الوقت الحالى، لايمكن اعتبارها ظاهرة عامة، فحوادث الانتحار تقع لضيق اليد والفقر والتهميش. هناك أسباب جديدة من الانتحار ظهرت، حيث كان الانتحار التقليدى يرجع لأسباب نفسية أو علاقات اجتماعية مضطربة أو بيت مفكك، لكن خلال السنوات الأخيرة، تم رصد ظاهرة تؤكد على أن هناك بعض الفقراء، ونظرًا لضيق العيش والبؤس الشديد، لم يجدوا أمامهم من سبيل سوى إنهاء حياتهم بأنفسهم، هذا ما كشف عنه "السيد ياسين". أضاف: "إذا أردنا البحث عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية وراء عمليات الانتحار، علينا النظر فى الوضع الاجتماعى والاقتصادى المصرى، لنجد أن هناك مظالم اجتماعية وقسمة ظالمة بين قلة من الأغنياء وملايين من الفقراء، والأخطر من ذلك أن الطبقة المتوسطة ذاتها انحضرت أوضاعها، وأصبح هناك حراك طبقى هابط، حتى وصلت إلى مشارف الطبقة الفقيرة". على النقيض من د. السيد ياسين، اعتبرت د. سامية الساعاتى، أستاذة علم الاجتماع، أن الانتحار لا يمكن اعتباره ظاهرة، لأن الظاهرة لابد أن تكون عامة ومنتشرة، وهذا غير موجود، لذلك فإن فكرة الإقدام على الانتحار ترجع فى المقام الأول إلى شخصية المنتحر، فهناك أشخاص قادرون على تحمل ضغوط ومشكلات كثيرة ومواجهتها حتى يقوم بحلها، وهناك شخص أخر ينهار تحت أقل ضغط، فمجابهة الأشخاص للمشكلات تختلف تبعا لطبيعة الشخص. الشعب المصرى صبور، وقادر على مواجهة كافة المشكلات، وهذا ما ظهر أثناء الثورة، هكذا ترى "الساعاتى"، التى استبعدت زيادة حالات الانتحار خلال الفترة القادمة، لأن المصريين يتمتعون بقدر كبير من الإيمان بقضاء الله وقدره، وهذا يولد بداخلهم شعور دائم بالرضا. غير أن الحديث عن تزايد حالات الإنتحار، فى الأونة الأخيرة، تزامن معه تراجع الدخل اليومى للأفراد، بسبب الأزمة المالية التى ضربت مصر فى الفترة ماقبل وبعد الثورة، الأمر الذى تسبب فى حدوث تفاوت حاد فى الدخل بين الأفراد، ينتج عنه اختلالات مادية قد تكون مزمنة لبعض الأشخاص. عن ذلك يقول السيد ياسين إن "الحرية" كانت إحدى شعارات التى نادت بها الثورة المصرية، وبالفعل بدأ تنفيذ ذلك الشعار فى الانتخابات البرلمانية، حيث أجريت الانتخابات البرلمانية بشفافية تامة، باعتراف جميع المراقبين، مهما شابها من سلبيات لدى البعض، إلا أن أعظم ظاهرة فيها كانت خروج ملايين المصريين من النساء والكهول والشباب للتصويت. يرى ياسين أن هناك حالة من عدم الفهم لكيفية تحقيق "العدالة الاجتماعية" – وهو أحد شعارات الثورة أيضا – فعلى سبيل المثال رأيت –والكلام على لسانه- أحد الناشطين السياسيين المعروفين إعلاميا أثناء متابعتى لإحدى البرامج الحوارية - مستاء للغاية متهما النظام العسكرى والحكومة القائمة على تسيير شئون البلاد بإخفاقها فى تحقيق العدالة الاجتماعية، بعد 10 أشهر من الثورة. يستكمل ياسين بانفعال شديد، إن هذا ما اعتبره نوع من الجهالة، فالعدالة الاجتماعية لا تقتصر على الحد الأدنى والأقصى –المطالب بهما - لكنها تقاس بمدى توسيع فرص الحياة أمام الناس وتقديم الخدمات الحقيقية فى التعليم والعلاج والعمل وحق السكن .. إلخ، وهذا ما يحتاج إلى إعادة صياغة أنساق المجتمع المصرى مما يستلزم، بالطبع، ضرورة مراجعة السياسات الاقتصادية المنحرفة ومراجعة وسائل الرعاية المجتمعية، وهذا يحتاج سنوات. وعن رأيه فى مطالبات البعض بثورة ثانية فى 25 يناير 2012، جاء رده باستياء، وتساءل: ما المقصود بالثورة الثانية أصلا؟ من يقول هذا الكلام شخص غير واع وبعيد كل البعد عن العملية السياسية، فرفع أى شعارات زائفة لثورة ثانية وثالثة، تعويق لمسيرة الديمقراطية. من هنا تكشف أن الفقر، البطالة، الغلاء والأزمات المالية، باتت أهم أسباب الانتحار ومحاولاته، فبحسب الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فإن ثلثى حالات الانتحار قام بها شباب فى المرحلة العمرية بين 15 و 25 سنة، مع معدلات انتحار يومية تدير الرأس من الفزع عندما نعلم أنها قد وصلت إلى نسبة مرتفعة تقترب من حاجز الأعلى عالميا، بالمنافسة مع الدول الاسكندنافية الشهيرة بارتفاع معدلات الانتحار فيها. نعم عام من الثورة قد أوشك على الانتهاء، وعام جديد يشرع بالبدء، ومع كليهما نحمل أمنيات وأمالا بغد أفضل، تتحقق فيه كل سبل الرخاء والرفاة لهذا الوطن الذى يحتاج إلى كل أبنائه، أصحاء معافين، كى يضعوه فى مصاف الأمم المتقدمة وليستعيد – بهم – موقعه الذى يستحق فى طليعة ركب الحضارة الإنسانية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.