د.سعيد اللاوندي في مثل هذه الأيام وقبل عدة سنوات كان يتجه أحد المصريين إلى المكتبة الوطنية في باريس، فوقع علي الأرض فجأة.. لم يمسه أحد بسوء حتى جاء البوليس الفرنسي الذي اكتشف أنه باحث وأستاذ جامعي فبعث به على الفور إلى مبنى السفارة المصرية في باريس، وهناك تعرف طقم السفارة عليه وتبين أن معلوماته كالآتي: الاسم: عبدالرحمن بدوي، الوظيفة: أستاذ جامعي "أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس"، السن: 80 عامًا، الوجهة: كان في طريقه إلى المكتبة الوطنية الفرنسية القريبة من ميدان الأوبرا. وعلى الفور قرر سفير مصر في باريس وقتئذ إرساله إلى مصر وتحديدًا إلى معهد ناصر للأورام لاستكمال علاجه. وبرفقة الراحل الأستاذ محمود أمين العالم ذهبنا لرؤية أستاذنا عبدالرحمن بدوي الذي عرفنا من طقم الأطباء المشرفين على العلاج أن حالته مطمئنة ومستقرة. أقول الحق لقد كان أستاذنا متيقظا تمامًا، يعرف جيدًا من يزوره، ويتحدث مع الجميع فيما يخصه، وإن كنا أخذنا من أستاذنا عبدالرحمن بدوي اهتمامًا خاصًا، وأذكر أن التليفزيون المصري كان يريد إجراء حوار معه؛ لكنه كان يرفض بشدة وعناد فلاحظ الراحل أمين العالم أنهم يضحكون عليه ويختلقون الأعذار لكي يجلس متهيئا للتسجيل وهو يرحمه الله يعاند ويكابر... وعندما أوشك العاملون في التليفزيون على النجاح في مهمتهم صرخ أمين العالم وقال: "أنا أرفض هذه الألاعيب.. دعوا أستاذي في سلام، لا نريد تسجيلًا ما دام يرفض أن يتم التسجيل معه بهذه الطريقة". وأذكر أيضًا أنه عندما رأى أمين العالم قال له: "أين فلوسي الخاصة بطبع أحد كتبي وقد كنت أنت طرفًا في الاتفاق"! وعلي مقهى قريب سألت أمين العالم عن هذه القصة فقال: "حدث ذلك منذ سنوات ولم يتم نشر الكتاب وبالتالي لم نعطه الأموال التي كنا اتفقنا عليها"، وأضاف: "كيف لهذا الرجل أن يتذكر شيئًا حدث منذ سنوات "! وأذكر أن عبدالرحمن بدوي اتجه نحوي بقوله: "أما زلت تخفي في ملابسك تسجيلا لكي تسجل هذا اللقاء"؟ وكان يرحمه الله يذكرني بموقف حدث في باريس قبل سنوات عندما اتهمني بأنني أخفي في طيات ملابسي جهازًا لتسجيل الحوار الذي دار بيني وبينه! وأقسم أن ذلك لم يحدث لا قديما ولا حديثا.. لكن هكذا اتهمني أستاذنا عبدالرحمن بدوي يرحمه الله. وعندما سألته عن معهد ناصر الذي احتضنه في مرضه وقدم له الخدمات الطبية التي تتطلبها حالته الصحية.. وقلت: "ألا يحمل هذا المعهد اسم الرجل الذي تكرهه ولا تحبه، أقصد الرئيس عبدالناصر"، وأذكر أنه لم يحر جوابًا وكأنه لم يسمع مني السؤال، فأشار لي أمين العالم ألا أسأله ثانية. ومما أذكره في هذا اللقاء أن أخوته تجمعوا من كل فج عميق حتى شقيقته والدة وزير الصحة الأسبق د.حلمي الحديدي، فاقترح أن يلتقط الجميع معه صورة تذكارية، وعندما وقفت والدة وزير الصحة السابق، صرخ فيها عبدالرحمن بدوي أن اخرجي من كادر الصورة؛ لأنه يريد الأخوة الرجال فقط! وللعلم شقيقته والدة وزير الصحة الأسبق كبيرة في السن وربما تقترب من الخامسة والستين؛ لكن انحيازه للرجال وضد المرأة كان واضحًا ومشينًا. والحق يقال لقد مكث أستاذنا عبدالرحمن بدوي بضعة أسابيع ثم رحل عن دنيانا، وقام ابن شقيقه محسن بدوي رئيس جمعية الصداقة الكندية - المصرية بتجميع تراثه العلمي كما أنشأ مركز عبدالرحمن بدوي ونظم عدة ندوات له وتبرع بمكتبة بدوي إلى مكتبة الإسكندرية، وكانت مكتبة بدوي في شارع همزان بالجيزة، ولم يُكمل أشكال المحافظة على تراث عمه؛ لأنه كان يعاني من مشكلات في القلب فرحل فجأة عن عالمنا، وكان شابًا في مقتبل العمر! وإن كنت ُ أنسى فلن أنسى أنه كان يكره عباس العقاد، وأذكر أنه صادفني مرة في مقهى المثقفين بباريس ويُسمى "كلوني" وانفجر قائلا: "ماهي حكاية عباس العقاد معكم؟ لقد عدتُ لتوي من أسبانيا والتقيتُ هناك بطالب مصري يعد أطروحة دكتوراه عن الشعر عند عباس العقاد، ما هذا الهراء؟ وهل كان العقاد شاعرًا؟".. قال ذلك وهو يتجه غاضبا نحو باب مقهي "كلونى"بعد أن أقسم أنه لن يجلس في مقهي لأنني أجلس فيها!! وكان يقصد بالطالب المصري الذي التقاه بمدريد الدكتور "عبداللطيف عبدالحليم" الذي رحل عن دنيانا أيضًا وكُنيته "أبو همام ". والحق أن الفكر العربي قد انقسم إلى قسمين في ذلك الزمان ، الطحاسنة والعقاديون، ولا شك أن عبدالرحمن بدوي كان في طليعة أنصار طه حسين. ولا شك أن الجيل الذي سبقنا كان سعيدًا بهذا الانقسام، وكان يرسخه وحدثت معارك ضارية بين الجانبين. ومما أذكره لبدوي أنه كان يقول عن نفسه في غضب إنه يزحف على جبهتين، الأولى الفلسفة بشكل عام والثانية الفلسفة الإسلامية، وكان يٌصدر في العام كتابين الأول عن الفلسفة عامة والثاني عن الفلسفة الإسلامية. ومما لا يمكني أن أنساه هو أنني ذهبتُ يومًا مع أستاذنا الدكتور حسن حنفي للقاء عبدالرحمن بدوي في معرض الكتاب الذي كان ينظمه معهد العالم العربي بباريس، وكان الدكتور حسن حنفي يريد إعطاء كتاب تذكاري عن بدوي ولم يكن يعرف أن أستاذ الفلسفة المعروف أحمد عبدالحليم عطية قد كتب في هذا الكتاب دراسة حول بدوي انتقده فيها! وعندما رآنا الدكتور بدوي هاج وماج وأخذ من الدكتور حسن حنفي الكتاب وألقى به تحت عجلات العربات المسرعة بجوار معهد العالم العربي بعد أن تشبعت أوراقه بمياه المطر .. للإنصاف لقد بحثت عن الدكتور حسن حنفي فوجدته قد اختفى، وكان يسير مهرولا باتجاه المترو. وهكذا جنى علينا الدكتور أحمد عبدالحليم عطية أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة سامحه الله.