في لغة سلسة وسرد متواصل يتدرج من البدايات إلى أسباب الظواهر ونتائجها.. يواصل د. عثمان الخشت أستاذ فلسفة الدين والمذاهب الحديثة والرئيس الجديد لجامعة القاهرة مشروعه التنويري من خلال البحث والتأسيس بكل ألق العالم الجليل وقدرته على صياغة منظومة جديدة لإشكالية تجديد الخطاب الديني التي تم استنفاذ صلاحيتها كمصطلح ومعنى وهدف. يرى د. الخشت فى كتابه " نحو تأسيس عصر دينى جديد" الصادر عن دار نشر نيو بوك، أن تجديد الخطاب الديني عملية تشبه ترميم الأبنية القديمة والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة .. إذا أردنا فعلياً أن نطرق أبواب العصر. وهو يقر بداية بعدم قناعته بأن الإسلام السائد في عصرنا هو الإسلام الأول الخالص النقي .. حتى عند أكثر الجماعات ادعاء للالتزام الحرفي للإسلام.. ويستند إلى مقياسه الذي لا يخيب أبداً : فالفكرة الصواب هي التي تعمل بنجاح في الواقع وتنفع الناس.. فصول الكتاب السبعة أعطت منهج تفصيلى مدعما بالدراسات والأسانيد التاريخية والمنهجية والاجتماعية لكيفية بناء خطاب وفكر دينى جديد يتحول بمرور الوقت الى تيار يغمر كل أشكال التطرف السائدة.. في الفصل الأول يتحدث عن الشك المنهجي وتأسيس عصر ديني جديد مستعرضا الشك المنهجي عند سيدنا إبراهيم عليه السلام ليذكرنا بمشكلة التقليد واليقين المطلق بصحة أقوال السابقين وسدنة الدين ورفض إبراهيم إسكات عقله وسر انتصاره ثم ينتقل الى أفكار الحداثة في أوروبا ويربط كاتبنا باقتدار بديع بين أهمية تركيز الضوء على إبراهيم عليه السلام والمقارنة بينه وبين ديكارت ؟ وأهمية الشك المنهجي أثناء الانتقال إلى العصر الديني الجديد فى كل العصور ملقيا الضوء على العبارة التي لخصت الفكرة الافتتاحية التأسيسية للعصر الجديد في الغرب. الذات المفكرة : افتتاح يستعرض الكتاب بتسلسل بديع الفكرة الافتتاحية للعصر الجديد في الغرب مؤكدا أن التجديد لا يأتي بإعادة اجترار موروث يعبر عن عصور لم نعشها ولم نخلق لها " فالذات العاقلة " أساس كل تجديد متحدثا عما بقى من ديكارت وكيف لم يستثمر هو نفسه أكبر خطوة على طريق الحداثة لا في الدين ولا في السياسة. ويلفت انتباهنا بشدة إلى ضرورة وضع الأفكار تحت مجهر التفكير المنهجي فإبراهيم عليه السلام مارس التفكير المنهجي قبل أن يأتيه الوحي الإلهي وأهمية مرحلة الثورة على الواقع القديم ، ومرحلة بناء واقع جديد وما هو خطأ التفكيكيين وخطأ الثورة على واقع قديم من دون تأسيس واقع بديل مذكرا أن العلم ليس هو حفظ المعلومات وإنما إعمال العقل النقدي في مقابل العقل الجامد الحاضن لنصوص القدماء ثم يتطرق للحديث عن طرق الخروج من حالة الشك المنهجي بالدليل العقلي والتجريبى ونقد سلطة قياس الحاضر على الماضى واختلاف الشك المنهجى عن المطلق للوصول الى مرحلة التجديد ويتطرق إلى مناقشة "ديالكتيك العقل" والاستدلال التجريبي وتحرير الإيمان من الشرك برفض وسطاء الحقيقة ويوضح أهم مداخل تكوين الخطاب الديني الجديد وكيف انتقلت العصبية من الدم والقبيلة إلى عصبية الأيديولوجية والجماعة ! ثم ينتقل من إحكام قيادة العقل إلى إحكام رؤية العالم ويتساءل محفزا قارئه على استنباط الإجابة: هل تكمن عظمة دعوة إبراهيم فقط في العقائد أم أيضاً في منهج إحكام قيادة العقل وطريقة البحث عن الحقيقة وأهمية الوقائع الخارجية التجريبية ، والاستدلال والحجة العقلية الخالصة وكيفية إبطال مغالطات أصحاب العقول العنكبوتية (هم كثر في عصرنا ) وخطأ التسليم بأقوال السادة قادة ( الحقيقة المطلقة ) . وفي الفصل الثاني يتحدث عن تفكيك الخطاب الديني التقليدي من أجل " تطوير "علوم الدين لا " أحياء " علوم الدين . ويتطرق لحركة الإصلاح الديني فى الفكر العربي الحديث التى لم تنتج علوماً جديدة ولا واقعا جديداً للاسف الشديد ولكنها استعادت عصور الشقاق وحرب الفرق العقائدية والسياسية التي ضربت الأمة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه مفندا خطيئة بذل الوسع في هدم المعبد على كل من فيه وخطورة غياب العقلانية النقدية واعلاء" العقل النقلي" لا "العقلي النقدي" وكيف يكون وضع الأستاذ العالم بين المتون والحواشي . ويفرق الكتاب بوضوح بين العلوم التي نشأت حول الدين علوم إنسانية كعلوم التفسير وأصول الفقه وعلوم مصطلح الحديث وعلم الرجال أو علم الجرح والتعديل وكلها علوم إنسانية أنشأها بشر ، وهي قابلة للاجتهاد والتطور والتطوير وبين المنطق الفاسد الزاعم بأن أي علوم بشرية هي مبادئ وقواعد يقينية مطلقة تصلح لكل زمان ومكان فالبشر ذوو عقول نسبية متغيرة والحقيقة تتكشف تدريجياً ولا تأتي دفعة واحدة . وهذا يختلف تماما عن تجمد العلوم التي نشأت حول النص الديني و بعدت عن مقاصد هذا النص ، وحولته من نص "ديناميكي" إلى نص "استاتيكي" ومن المفارقة أن دعاة الإصلاح لم يقم أي منهم بمحاولة " تطوير علوم الدين" ، بل قاموا " بإحياء علوم الدين " كما تشكلت في الماضي من خلال استحضار نفس المعارك القديمة مضافا اليها المعارك الجديدة، من هنا تنبت أهمية تفكيك البنية العقلية التي ترقد وراء الخطاب التقليدي. وفي الفصل السابع والأخير يتحدث د. الخشت عن الحاكم الناجح بين قوانين القرآن وسنن التاريخ..ويربط الكتاب ربطا رائعا بين قصص القرآن التى تقدم فلسفة للتاريخ ناعيا غياب المفاهيم التى تدعم قدرة القيادة على التخطيط، مع الأخذ فى الاعتبار أن حجرا واحدا لا يصنع شرارة البدء أو (الديالكتيك ) إضافة إلى أن البطل وحده لا يصنع أمة – محمد صلى الله عليه وسلم – المسيح – سقراط – فمتى تخرج مصر إلى النهار ؟ ذو القرنين .. التمكين والتنمية والإرهاب
وينتقل إلى أن" العدالة " تعد من أهم وسائل التمكين السياسي.. فالعدالة مطلب إنساني عام قيمة العدالة التي تظاهر من أجلها المصريون وهي ذاتها التي تظاهر من أجلها مواطنو براغ أو غيرهم من شعوب العالم ويفسر لماذا استحقت تجربة ذي القرنين أن يسجلها القرآن العظيم درساً لكل الحكام في كل زمان ومكان ويستشهد بخطبة الإسكندر في جنده ومعايير الحد الأدنى المشتركة بين الجنس البشري. ويفرق كاتبنا ببراعة لافتة بين المساواة الفعلية حسب مبدأ الاختلاف لجون رولز وبين قيمة " الصدق " والعلاقة الحميمة بين قيمتى " العدالة والصدق " بوصفهما مطالبان مشتركان بين الجنس البشري كله وأهمية خلق بيئة تنافسية عادلة لا المساواة الميكانيكية التي تلغي الفروق الفردية في المواهب والجهد فالعدالة ضرورية لعملية التنمية لحماية عملية التنافس من غول الاستثناءات والوسائط وحماية المؤسسات للأفراد من القوة الطاغية لبعض الجهات والمجموعات ذات القوة فالسعى من أجل منظومة قانونية عادلة يحل الكثير من مشاكل عصرنا . ويشدد على ضرورة ظهور الإرادة عند الناس للانتقال من الضعف إلى التمكين ، ومن التخلف إلى التقدم ، ومن الإرهاب إلى الأمن .. اذ أن الإرادة الفاعلة تجعل للقدمين جناحين و الإرادة ليس معناها النية فالإرادة بلا تفكير مجرد قطة عمياء في غرفة مظلمة مؤكدا أهمية تحويل الخطة إلى أفعال قابلة للقياس والتقويم وكيف أنه لا يوجد مصير محتوم ونهاية واحدة ، بل توجد خيارات مفتوحة والمدرب العالمي وحده لا يصنع فوزاً فقانون الإرادة قانون الأزلي يحكم التاريخ و قصة ذي القرنين ليست قصة عابرة .. كلمة أخيرة ، ماذا يجب أن نفعل ؟ فى طرحه الختامى لهذا السفر الجامع يتحدث د. الخشت عن أهمية تغيير ماكينة التفكير وبنية العقل المسلم المعاصر وما تنطوي علىه إشكاليات ضخمة والرؤية العلمية للدين والعالم في مقابل الرؤية اللاهوتية والسحرية القائمة على النقل والحفظ والإتباع ويتطرق لا همية وجود نوعية جديدة من التعليم و طرق تدريس قائمة على التربية الحوارية والتعليم من أجل بناء الوعي النقدي والتوسع في تعليم الفنون وممارستها وتذوقها وهو أمر من شانه تقليص قابلية العقل للإرهاب وأهمية إزاحة كل " المرجعيات الوهمية "وتكوين مرجعيات جديدة وتغيير الاتجاه الحتمى إذ أن التجديد من داخل العلوم الشرعية غير ممكن كما أن الإرهاب لا يحل فقط أمنياً وعسكرياً .. ويختتم هذا العرض بأهمية التحول من مرحلة " الوعظ والإدهاش " إلى مرحلة " الفكر والتفكر " والتحول من مرحلة التفكير ب " السحر والمعجزات " إلى التفكير ب " التجربة والبرهان".