حين تمر بجوار سور مهدم يحيط بأرضٍ خاوية، على أطراف منطقة التجمع الخامس (شرق القاهرة) قد تعتقد أنها مملوكة للدولة، أو لأحد المستثمرين، لإقامة مشروع ضخم وسط تلك المنطقة المليئة بالتجمعات السكانية الراقية (كومباوندز)، لكنك لن تدرك أنك أمام محمية نادرة الوجود. أرض صحراوية، لا تخلو إلا من مخلفات الهدم والبناء، وبعض الأشجار المتحجرة التي لا يعلم تاريخها أحد، أو يشغل باله بتأملها والبحث وراءها. هذا المكان الذي احتلته الكلاب الضالة كمأوى لها، هو محمية "الغابة المتحجرة" أو كما يطلق عليها البعض "جبل الخشب" التي أُعلنت محمية طبيعية 1989سنة، بقرار 944 بمساحة إجمالية 7 كيلو مترات. لا يُفصح عن وجود المحمية سوى لافتة، وضعتها وزارة البيئة على مدخلها تحمل عبارة "محمية الغابة المتحجرة.. لا تأخذ شيئًا.. لا تترك شيئًا".. وكأنها "خيال المآتة" الذي تخيف به المتعدين عليها. في جولتنا حولها، لم نجد إلا آثارًا لسور متهدم، تآكل بسبب الصدمات التي يتعرض لها بشكل يومي من اللوادر وسارقي رمال المحمية، وجبال من مخلفات البناء التي تحيط بها من كل جانب، تستطيع دخول المحمية من أحد الفتحات الموجودة بسورها. في المساء، تقتحم المحمية اللوادر والخارجين عن القانون ولصوص المحاجر، الذين يرفضن السفر إلي محاجر الرمال بطريق السويس، فيقومون بنقل الرمال التي تتميز بجودة عالية لاستخدامها في عمليات البناء. أما في فترة الصباح، فهي فريسة لمخلفات الهدم والبناء التي تلقى علي أرضها لتخفي ملامح الأسوار المحيطة بها. وفقا ل"ياسر" صاحب أحد المصانع بالمنطقة الصناعية بالقاهرة الجديدة. لكن الصدمة كانت في زيارتنا لها في وضح النهار، ومشاهدة سيارة تحمل رمالها الصفراء، وتتحرك بجوار محيط المحمية، في حين أنه لا يوجد مكان لتحميل الرمال الصفراء سوى بداخلها، وبدا على راكبها التوتر والقلق، حين التقطنا له صورة سريعة أثناء تحركنا بالسيارة. يتساءل "ياسر": كيف لمحمية نادرة الوجود، أن تباع ب 650 دولارًا للمتر للمصريين في الخارج، وتعرض في قرعة القاهرة الجديدة للإسكان، وفقًا لما قاله له أحد السماسرة بمنطقة التجمع الخامس، حيث عرض عليه التقديم في القرعة، بعد أن تنتهي هيئة القاهرة الجديدة من عرضها بالخارج، وتطرحها على المصريين في الداخل. هل يمكن استثمار المحمية بما يحافظ على طبيعتها، أم أن وجودها وسط منطقة سكنية سيحكم عليها بالموت البطيء، تساؤلات عديدة تثور أثناء تجولنا حول سور المحمية المهدم. تمتلئ المحمية بالسيقان، وجذوع الأشجار المتحجرة، ضمن تكوين "جبل الخشب"، وقد بدأت الدولة بإحاطتها بسور كلفها قبل عدة سنوات ملايين الجنيهات، وفقا لمصدر في وزارة البيئة طلب عدم ذكر اسمه. فتحات سور محمية الغابة المتحجرة، تكشف ما تتعرض له المحمية من تعديات يومية سافرة على ممتلكاتها، فبدون تلك الفتحات كان يخيل للمار بجوارها أن المحمية بها أشجار خلابة ومناظر راقية، إلا أن الحقيقة تختلف، حيث تبدو المحمية وكأنها مقلب للقمامة لا أكثر. "عهد نظيف" بدأ الاعتداء على المحمية، فى عهد حكومة الدكتور أحمد نظيف، عام 2005، عندما سعى وزير الإسكان الأسبق، محمد إبراهيم سليمان، للاستحواذ على مساحة كبيرة من المحمية، وضمها إلى جهاز القاهرة الجديدة لبناء منتجعات لرجال الأعمال، ولكن وزارة البيئة رفضت حينها، لأنها تدخل ضمن التراث الإنساني الذي تتابعه منظمة "اليونسكو" وتعمل على حمايتها، وذلك وفقًا للدكتور عادل السحيمي، رئيس قطاع حماية الطبيعة الأسبق ل"بوابة الأهرام". وأوضح "السحيمي"، أن المحميات الطبيعية هي أهم المناطق في مصر، والولاية فيها تعود لوزارة البيئة، ضعيفة الإمكانيات التي لم تعد قادرة على تنميتها، وتطويرها، وحمايتها من التعدي، وبالتالي، المحميات بحاجة إلي تنمية حقيقية بشفافية عالية دون فساد، وهذا شبه مستحيل. يكمل: "طول ما الحاجة حكر علي جهة معينة، ومقفول عليها في صندوق أسود، ده معناه خلق بيئة كاملة للفساد، ودي كانت مشكلتي أني كنت بحب أعمل كل حاجة في النور". تاريخ "المتحجرة" وعن تاريخها، يقول الدكتور محمد إبراهيم، مُعد ملف إعلانها محمية طبيعية، إنه يرجع ل36 مليون سنة، من الزمن الثالث للعصر "الأوليجوسيني"، فهي تحمل جزءًا من التاريخ الجيلوجي المهم، والنادر حدوثه، لذا وجب الحفاظ عليه، وحماية هذه الثروة الطبيعية النادرة، كتراث حضاري وثقافي وعلمي وسياحي. وبفخر يقول "إبراهيم" إن "المتحجرة" كانت ولا تزال مصدر اهتمام الباحثين بأقسام الجيولوجيا والنباتات بكلية العلوم بالجامعات المصرية والعالمية والمهتمين بتاريخ الأرض، كما تحتوي على الرواسب الققارية والحفريات التي ترتبط دراستها بالكيمياء والفيزياء الجيولوجية، وبالتالي تعد أثرًا جيولوجيًا نادرًا لا مثيل له. ويسرد موضحًا، أنها تتميز بتراكم طبقات سمكها 6 أمتار من الحجر الجيري الرملي الغني بالحفريات، تكونت نتيجة بيئة بحرية في العصر الأيوسيني، ثم القطاع الإسترتجرافي، وتصل طول جذوعة إلي أكثر من 25 مترًا. ويكمل "إبراهيم" حديثه قائلًا: نُقلت تلك الحفريات والأشجار بواسطة المياه على مر العصور المختلفة، فبعضها لم يعد موجودًا الآن، ولب الأشجار اختلط ببعض المعادن والمواد الثقيلة، التي أكسبتها ثقلًا وسماكة تجعلها تغوص في الماء، مشيرًا، إلي أن جذوع الأشجار تصل حتى عمق 100 متر تحت الأرض، وبسبب عوامل التعرية ظهرت بعض الأجزاء التى نراها الآن. ويحكي مدير عام المحميات الطبيعية الأسبق، لأول مرة، عن وجود حفريات لأفيال تحكي مناخًا لعصور قديمة ومتعددة لم نكن نعرف باحتمال وجودها في مصر، موضحًا، أن موقع الغابة حيوي، ويعتبر متنفسًا للمنطقة السكنية المحيطة، وبالتالي، يجب تضميد جراح الأشجار المتناثرة ولحمها معًا، وكتابة لائحة تحكي تاريخ كل منها، فمن الممكن أن تتحول إلي منطقة جذب سياحي وبيئي عالمي ومحلي. يقول صاحب كتاب "المحميات الطبيعية"، إنه من المفترض، أن نكتشف ونسجل 20% من مساحة مصر محميات طبيعية، وصلنا الآن إلي 15% فقط، ولابد أن نكمل ما بدأناه، ولا يوجد ما يمنع الاستثمار في المحميات الطبيعية لكن بما يحمي طبيعة المكان. بداية الخليقة تقول الدكتورة شيرين فراج، أستاذ الهندسة البيئية والوراثية، إن الكون قبل الميلاد كان عبارة عن خلية واحدة، وجدت بأكملها تحت المياه، ثم بدأت في التشكل والتطور، وبالتالي، كانت هناك كائنات بحرية، إلي أن بدأت المياه في الانحسار من بعض المناطق، وساهم ذلك في وجود بعض الكائنات الجديدة البرمائية، وصولًا إلي وجود الأشجار التي انتقلت إلي تلك المنطقة بحكم حركة المياه المستمرة، ثم تحجرت.. وبالتالي، فإن منطقة الغابة المتحجرة شهدت عصورا تاريخية عديدة، ووجب علينا الحفاظ عليها. مساحة الغابة المتحجرة 7 كيلو متر مربع، مهدر منها كيلو متر مربع، وبالتالي، هي مساحة صغيرة جدًا، شاهدة على العصور الجيولوجية في مصر، فكيف لا تستطيع جهة الولاية عليها "وزارة البيئة" حمايتها، وإحسان استخدامها، بالصورة التي تجعلها قادرة على خلق ثروة كاملة لمصر ب"مليارات"، وفقًا لرأي شيرين فراج. مقترح لإعلان المحمية "جيوبارك" فيما يرى الدكتور محمد العوا، الخبير الإقليمي لعلوم البيئة والأرض بمكتب اليونسكو الإقليمي للعلوم للدول العربية السابق، أن الأفضل بالنسبة لمحمية الغابة المتحجرة إعلانها "جيوبارك" بدل محمية، وفي هذه الحال ممكن إدارتها بصورة لا تمنعها من الاستثمار، مشيرًا، إلي ضرورة إعداد خطة محكمة توضح سبل الاستغلال الأمثل للمنطقة، بما لا يهدر الجزء الجيولوجي بها. بيع الغابة "كلام سماسرة" قال الدكتور خالد فهمي، وزير البيئة، إن التعديات التي تتعرض لها محمية الغابة المتحجرة، قائمة منذ عام 2015، مطالبًا بإعطائه مهلة 8 شهور، للحكم على أداء الوزارة في تنمية المحميات الطبيعية في مصر. وأوضح، أن "المتحجرة" تعد من أصغر المحميات، وموجودة وسط تجمع سكاني، لذا تعاني من تعديات مستمرة، مشددًا، على مقولة "المحمية متتبعش يا جماعة لأنها ملكية عامة وفقًا للدستور، وأنا مبعملش حاجة في المحميات إلا بعد العرض على مجلس الوزراء". وفيما يتعلق بالمتعدين على المحمية، قال وزير البيئة، إنه حين يتم القبض عليهم، وتسليمهم لأقسام الشرطة، يخرجون اليوم الثاني، لأنه لا يوجد في القانون ما يجرم الفعل الذي يقومون به، مشيرًا، إلي أنه لا مجال لما يقال حول ضم أجزاء من محمية الغابة المتحجرة في قرعة القاهرة الجديدة للإسكان، قائلًا: "ده كلام سماسرة". وكان الدكتور خالد فهمي، قد صرح أنه سيتم إنشاء متحف جيولوجي بمحمية الغابة المتحجرة، بدعم من وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة، وفقًا للاشتراطات البيئية وطبيعة المحمية. وأضاف د. خالد فهمى، إن مهمة المحميات الطبيعية على المستوى العالمي، قد تطورت لتشمل دعم أنشطة السياحة البيئية المستدامة، وهو ما دفع وزارة البيئة الى تطوير استراتيجيتها في إدارة المحميات الطبيعية لتتماشي مع التطورات والتوجهات العالمية. وما زال ينتظر جبل الخشب يد العون، التي تمتد له لترفع عنه باقي المخلفات التي طمست ملامحه، وتسيطر على عصابات اللوادر التي تستنفذ موارده ورماله، وتقضي على تاريخه، الذي كان سببًا في جعلها المحمية الوحيدة الجيلوجية في العالم أجمع. سيارة نقل رمل قبل إلقاء حمولتها بالمحمية سيارة نقل رمل قبل إلقاء حمولتها بالمحمية سور المحمية به فتحات متعددة يمكن المرور منها دون المرور بأمن المحمية سور المحمية به فتحات متعددة يمكن المرور منها دون المرور بأمن المحمية سور المحمية به فتحات متعددة يمكن المرور منها دون المرور بأمن المحمية سور المحمية به فتحات متعددة يمكن المرور منها دون المرور بأمن المحمية محمية طبيعية عمرها 36 مليون سنة تتحول إلى "مقلب زبالة".. الغابة المتحجرة "فريسة المخلفات" في شرق القاهرة | صور