أثارت النتائج الأولية لأول انتخابات ديمقراطية تشهدها مصر ربما علي مدار تاريخها كله، الكثير من المخاوف في الداخل والخارج، وأثبتت أن المشهد السياسي في مصر خلال الفترات المقبلة سيكون مليئا بالمفاجآت. وفي سياق المفاجآت عبرت جريدة الجارديان البريطانية في مقالها الافتتاحي، عن أن نجاح العملية الانتخابية في مصر وسط المشاهد المتواترة الذي سبقتها هي في حد ذاتها مفاجأة نشرت" في أسبوع واحد تحول المشهد من المتظاهرين في ميدان التحرير الذين تشن عليهم حملات الغاز, إلي ملايين من المصريين يقفون لساعات تحت المطر لتذوق أولي ثمار الديمقراطية...لقد أظهر الإقبال علي صناديق الاقتراع أن مصر العظيمة تقف في خليفة المشهد، والحجج القائلة بأن مصر تشهد حالة اضطراب شديدة، تمنعها من إجراء الانتخابات، لم تصمد طويلا. "وتشير الجارديان إلي أن النتائج التي أكدت وجود حزب الحرية والعدالة في الواجهة، هي نفسها النتائج التي كان من شأنها أن تظهر في أي وقت خلال السنوات الثلاثين الماضية، لو لم يتم قمعها من قبل نظام ديكتاتوري، يبقي علي الحزب - وفقا للجارديان ، أن يقدم سجلا حافلا من استيعاب التيارات السياسية الأخرى، وأن يشكل توافق في الآراء السياسية، كما فعل حزب النهضة في تونس، وبذلك يكون قد قدم ضمان خروج نهائيا من زمن الاستبداد، سوف يتطلب الأمر الوقت والصبر.....لكن تحالف الحزب مع التيارات الأخرى التقدمية سوف يكون أفضل وسيلة لطمأنة مصر أنها ليست علي وشك الوقوع في قبضة حكم إسلامي متشدد. حاول بعض المحللين السياسيين في الغرب قراءة النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية، بقدر من الهدوء والتروي بدلا من الفزع الذي انتاب عددا كبيرا ممن يقرأون تطورات المشهد السياسي في مصر، بعض أصحاب القراءات الهادئة حاول وضع تصوراته لمستقبل مصري يهيمن عليه الإسلاميون، منهم جاكسون ديل كاتب افتتاحية الواشنطن بوست المتخصص في الشؤون الخارجية، الذي يري أنه برغم التخوف التي انتاب العديد من المحررين الغربيين لصعود التيار الإسلامي في مصر، إلا أنه وبعد التقائه العديد من ممثلي تلك التيارات سواء من الإخوان المسلمين أم السلفيين بالقاهرة، يري أن خطابهم يحمل نغمات تصالحية، فعدد كبير من رموز التيار السلفي يعتقدون أن دفع البلاد نحو الديمقراطية علي النمط الغربي هو "الخيار الوحيد المتاح"، ويري دليل أنه بصرف النظر عن بعض المتشددين الأصوليين المتمركزين بين القبائل البدوية في شبه جزيرة سيناء، فإنه لم يعد هناك إسلاميون مسلحون في مصر، لقد أعلنوا عن نبذهم العنف منذ سنوات، في حين انه يري أن صعود حزب الحرية والعدالة لا يفترض أن يكون مفزعا كما يتصور الغرب، فهو وإن كان يشكل تهديدا لليبراليين في مصر, إلا أنه بالنسبة للغرب سيجعل من مصر شريكا صعبا مثل تركيا, ولكن ليس مثل حزب الله في لبنان أو حماس في قطاع غزة, وأنهم سيبحثون عن دور جديد تلعبه مصر في المنطقة ولكنهم سيحافظون علي معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في نفس الوقت الذي سيقدمون فيه العون إلي الفلسطينيين في مقاومتهم لمغتصبي الأرض والوطن, وهم أيضا سيتفاوضون من أجل تشكيل حكومة إجماع وطني جديدة. أما الكاتب البارز في مجلة التايم, توني كارون المتخصص في النزاعات في منطقة الشرق الأوسط, فيري أن تأكيد الإخوان علي عدم احتكارهم للسلطة, واتجاههم إلي العمل وفق ائتلاف وطني, وعدم سعيهم وراء الترشح لمنصب الرئاسة, بقدر ما يحمل نوعا من الحكمة, حيث يعمل علي تسكين مخاوف القوي الغربية والجنرالات في مصر, إلا أنه أيضا نوع من البرغماتية السياسية, حيث يدرك الإخوان جيدا أن المعيار الذي سيحدد أي قوي سياسية سوف تصعد أو تسقط في مصر الديمقراطية, هو قدرتها علي تحقيق نمو اقتصادي, يمكنه أن يوقف معدلات الفقر الطاحنة والبطالة التي ساعدت علي تغذية لهيب الثورة في المقام الأول, يري كارون أن هيكل الاقتصاد المصري والوضع الاقتصادي العالمي, يعملان ضد صالح هؤلاء الذين سيحاولون تحقيق الطموحات التي أيقظتها الثورة المصرية, يكتب:"حكم مصر الآن, ليس الأمر الذي يسعي أي حزب عاقل لتحمل مسئوليته وحده." في تحليله لسبب تراجع نتائج التيارات الليبرالية في الانتخابات,يكتب دان ميرفي, محرر شئون الشرق الأوسط بصحيفة كريستيان ساينس مونتور الأمريكية:" عندما تم دفع مبارك خارج الحياة السياسية في فبراير الماضي, كان الكثير من أصدقائي المصريين من الطبقة المتوسطة والمثقفين في القاهرة مقتنعين أن أصواتهم ستلعب دورا رئيسيا في السياسة المصرية, بالتأكيد كان الإخوان هم الأقوى, لكنهم ظنوا أن تأثيرهم مبالغ فيه كثيرا" ينقل ميرفي تصور قطاع كبير من المصريين الليبراليين في مصر بان مصدر قوة الإخوان كان أنهم ظلوا المعارضة الحقيقية الوحيدة ضد مبارك, مع قدرتهم علي تشكيل شبكات من الجمعيات الخيرية حول المساجد, دفعت الكثير من المصريين القانطين إلي الاحتشاد حولهم, لكن مع المزيد من الحريات لجميع التيارات السياسية والاجتماعية, فان تأثيرهم سيكون اضعف. لكن لم تكن تلك الطريقة التي سارت بها الأمور في مصر, لقد نال الليبراليون لكمة قوية, كما يري ميرفي, وربما كانوا في حالة إنكار, وعليهم أن يواجهوا الحقيقة, بديل الناخبين عن جماعة الإخوان, هم السلفيين, وان كان من غير المتوقع وفقا لميرفي أن يشكل الإخوان والسلفيون كتلة إسلامية متجانسة, حيث إنهم يواجهون بالفعل خلافات قوية حول بعض القضايا الأساسية, إضافة إلي وجود تنافس حاد بينهما, يري ميرفي انه بعد إعلان النتائج الأولية, قد تلجأ بعض القوي الليبرالية في مصر إلي التحول إلي المجلس العسكري, لتوفير حماية لهم, ويشير إلي أن العديد منهم قد سعي خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات إلي تأخيرها , بحجة أنهم ليسوا علي استعداد للتنافس مع الإخوان الأفضل تنظيما, ويقدم ميرفي في مقاله, ما يعتقد أنها أخبار جيدة لهؤلاء, فعلي الأرجح أنه مع كتابة دستور جديد للبلاد في العام المقبل, قد تجري انتخابات برلمانية جديدة, مما يعني أن أمامهم فرصة أخري لمحاولة تحقيق تنظيم فعلي والتقدم للأمام كقوة متماسكة, ولكن ميرفي ينتهز الفرصة هنا لانتقاد أداء تلك القوي الليبرالية التي أشعلت ثورة 25 يناير بالأساس, حيث يري أنها أهدرت الكثير من الوقت القصير ما بين سقوط مبارك والانتخابات, في الاقتتال فيما بينها حول الشخصيات المرشحة والبرامج السياسية, في الوقت الذي كان فيه مؤيدي الإخوان يتحركون بحماس في جميع أنحاء مصر, ليقدمون للناخب رسالة بسيطة ومباشرة: نحن لسنا فاسدين , نحن ملتزمون بتحقيق الرفاهة الاجتماعي, وأوراق اعتمادنا هي ضمان تحقيق العدالة والنزاهة , معنا لا يوجد ما تخشاه. يكتب ناثان بروان, أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن, والباحث المتخصص في الحركات الإسلامية, في دورية ناشونال انترست الأمريكية , "لسنوات طويلة طالب منتقدي جماعة الإخوان المسلمين في مصر, تقديم ما يثبت التزامهم بالديمقراطية , وبطبيعة الحال, دون وجود انتخابات حرة ونزيهة بالبلاد , لم يكن بإمكانهم تقديم أي شيء سوي الوعود" اليوم وبعد أن أظهرت الجولة الأولي من الانتخابات, تقدم الإسلاميين, يري بروان أنهم قادرين أخيرا علي اقتناص فرصة ذهبية وتقديم ما يثبت التزامهم حقا بالديمقراطية, ولكن وفقا لبروان, فقد يكون هذا أيضا هو المأزق الذي سيواجههم علي وجه التحديد. يري بروان أن الإخوان , التي يبلغ عمرها 80 عاما, دفعت خلال الأشهر الماضية, المجلس العسكري بالتعجيل في إجراء الانتخابات, لم يمهلوا الأحزاب الأخرى الجديدة التي تشكلت عقب ثورة 25 يناير من بناء شبكات تواصل واسعة تمكنها من تنظيم دوائر انتخابية في السياسة المصرية, وهو ما يصفه بروان في تحليله بالفشل في المهمة, ويري أيضا أن النقابات العمالية الوليدة التي كانت إضراباتها إضافة إلي الحماس الثوري, لم تنجح في تأسيس حزب للطبقة العاملة , وإنها لجأت إلي التظاهرات علي مدار الأشهر الماضية, متجنبة العمل طويل المدى ببناء حزب. في الوقت الذي نجح فيه الإخوان من نقل الزخم السياسي بعيدا عن "ميادين التحرير" ودفعها نحو صناديق الاقتراع. يحذر بروان الإخوان من انه علي رغم إثباتهم بالفعل نفوذهم السياسي من خلال صناديق الاقتراع, إلا انه قد يأتي يوما يندمون فيه علي هذا النصر, عندما يجدون أنفسهم وجها لوجه مع المجلس العسكري دون حلفاء, مع مخاطر الوقوع في تنافس متوتر بين الجانبين خاصة عندما يحين وقت كتابة الدستور, وقتها قد لا يجد الإخوان فاعلين سياسيين آخرين يسارعون في الوقوف إلي جانبهم في أي مواجهة مستقبلية, بل أن بعضهم قد يفضل بقاء الدور العسكري لفترة أطول كبديل عن حكم الإسلاميين.