عندما تدب قدماك شارع المعز لدين الله الفاطمي، وتجد نفسك وسط كميات من المعدن النفيس، الذي يجذب بريقه الأبصار ويسلب العقول والوجدان، من فرط جماله ونقوشه البديعة وألوانه المبهرة، فإنك قد وصلت إلى الصاغة. وهى من أقدم الأسواق التاريخية، حيث يوجد علي اليمين والشمال أكثر من 30محلا للمشغولات الذهبية. فى الصاغة مازال الذهب يتربع علي عرش سوق المجوهرات، بأشكاله المختلفة، والمستوحاة معظمها من نقوش المصريين القدماء. لكن ما يجذب الانتباه ليس بريق الذهب، ولكن رجالا يجلسون علي أبواب المحلات، تبدو عليهم علامات الأسي والفراغ اتجهوا إلي تدخين الشيشة. اللامبالاة أصبحت من السمات الأساسية، عندما تنظر إلي ملامح وجوههم، وآخرون من الشباب يستحدثون أساليب جديدة وفنونا غير تقليدية، من أجل استقطاب الزبائن لمحلاتهم، لترويج بضائعهم من المشغولات الذهبية. يخيم الركود بظلاله علي الشارع، رغم أنه يحمل في طياته نخبة من كبري الشركات للمشغولات الذهبية، فالارتفاع الجنوني للذهب عطل الكثير. ولكن كما يقول المثل الشعبى "مصائب قوم عند قوم فوائد".. حيث إن الكثير من الأسر المصرية، لم يجد حلا لغلاء المعيشة، سوي بيع المشغولات الذهبية، التي كانت تقتنيها.. فقداستحوذت حالات بيع الذهب المستعمل علي نحو 30 بالمائة من حجم المبيعات، حسب كلام عبد الله عبد القادر، صاحب أحد المحال بسوق الصاغة. وقال ناجي فليبس، أحد تجار المشغولات الذهبية بالصاغة، إن حال الصاغة الآن اتجهت إلي البيع من قبل المستهلكين، وأصبح التجار بمثابة المشتري للذهب الكسر "المستعمل"، في ظل ارتفاع الأسعار. شهدت أسعار الذهب قفزات غير مسبوقة، تعدت نسبتهاال 200بالمائة منذ 30عاما علي مستوي العالم بالبورصات العالمية، في ظل تدهور الأحوال الاقتصادية والأزمات العالمية وانهيار قيمة الدولار بالدول العظمي، وأيضا تراجع عائدات الودائع المصرفية والسلع البترولية، الأمر الذي دفع صناديق الاستثمار إلي التركيز علي الذهب، بل وأنشئت صناديق متخصصة لهذه السلعة، "كغطاء نقدي" لها، حيث إنه يعتبر الملاذ الآمن لأي من الدول لضمان قيمته الفعلية، مع مرور الزمن. يرجع هذا المفهوم، الذي تتبعه الدول العظمي الآن إلي قديم الأزل. فى الماضى كانت تتردد "أم صفاء"، الست البسيطة علي سوق الصاغة، مع كل تكوين مبلغ بحوزتها، أو "قبض جمعية مع صديقاتها"، لتشتري بعض "الغوايش" تحسبا للظروف الطارئة، أو تحويشا لثمن الكفن، وعندما تسألها عن وجود المشغولات الذهبية في يدها، تقول: "دول بتوع خرجتي يا بيه"، لسرعة التصرف فيها من البنك أو دفتر البريد. فالسيدة المعيلة أو بائعة الخضراوات، لاتعرف طريق الودائع البنكية كوسيلة للادخار، كذلك لا تعرف ربة المنزل طريق البورصة كوسيلة للاستثمار. هذا ماأكده إسلام ثابت، أحد تجار الصاغة، الذي تربي وترعرع وسط سوق من "أكبر الأسواق للمشغولات الذهبية علي مستوي مصر، والدول العربية". كان يتوافد عليه المستهلكون من مختلف طبقات المجتمع، ومن جميع المحافظات، وبعد موسم حصاد المحاصيل الزراعية، يأتي الفلاحون لشراءالمشغولات الذهبية، إما للزينة أو للادخار. وكان سعر الذهب عيار 21 لايتعدي92 قرشا، وذلك في عام 1970م.. كذلك كانت تتوافد على السوق الأفواج السياحية، من مختلف بلدان الدول العربية والأجنبية للتسوق. يشير ثابت إلى أن اقتناء الذهب من العادات القديمة، وارتداءه يعطي إشارات علي المستوي المادي للأسرة، وبالتالي تستخدمه سيدات المجتمع الراقي للزينة وإظهار الثراء.. فقد كانت لسوق الصاغة رونقها وجمالها الخاصان بها، ولها المترددون عليها، من عاشقي المقتنيات من المشغولات الذهبية النادرة، والتي ترجع للعصور القديمة، ومن التراث الفرعوني القديم. وتقع "سوق الصاغة" في قلب القاهرة الفاطمية بسوق الغورية، ولها أربعة مداخل، هي: الموسكي والغورية والعطارين وبيت القاضي.. ويرجع تاريخ سوق الصاغة إلي بداية العصر الفاطمي، ونشأة قاهرة المعز. كما أنها تضم سوق تجارة الجملة، وتحتوي علي نحو 20ورشة لصناعة الذهب. وتقع الصاغة بوكالة أبوالروس، "وكالة الجواهرجية"، بحارة اليهود بالمقاصيص، وهي المسئولة الآن علي تحديد الأسعار المحلية، بالاتفاق بين كبار التجار هناك بشكل يومي. نشأت سوق الصاغة عام 1930، مع افتتاح شركة "ليتو ومراد" للمجوهرات الذهبية، بعد العدوان الثلاثي، إلي أن استحوذ السرجاني ولازوردي، وهما أشهر العائلات في المشغولات الذهبية، منذ بداية العصر الذهبي للسوق، وحتي الآن في الشهرة. كانت الصناعة اليدوية، تسيطر علي السوق بالأشغال اليدوية، التي لاتقدر بثمن، وتعتبر بمثابة مقتنيات يقبل عليها الفنانون والمشاهير والوزراء وكبار الشخصيات بالمجتمع. ومن أشهر تلك الشخصيات، الخديو إسماعيل، وأم كلثوم، والفنانون الاستعراضيون: نجوي فواد وكوكا، وإبراهيم سليمان، النائب السابق بالجمالية، وزير الإسكان السابق.