هذا المقهى، ليس مقهى عاديا كمعظم المقاهى، التى تزخر بها القاهرة.. هذا المقهى لايأتى رواده فى الصباح، ليحتسوا أكواب الشاى وفناجين القهوة ويطالعوا جرائد اليوم، ولايجلسون مساء ليلعبوا الطاولة ويدخنوا الشيشة. فالمقهى يفتح أبوابه فى الخامسة فجرا، ويخلو من زبائنه بعد الرابعة عصرا. زبائنه مختلفون لاوقت لديهم للتسلية أو المتعة، ولو باحتساء كوب شاى. فالشاى هنا ضريبة يدفعونها لصاحبة المقهى، مقابل ساعات الانتظار الطويلة، حتى يرتفع صوت حارس السجن وتفتح بوابته الجانبية الصغيرة، لتسمح لهم بالدخول للزيارة. مقهى الفلاح، أشهر مقهى فى حى طرة، حيث سجن طرة الشهير بمسمياته ومبانيه المتعددة، ومساحته الشاسعة حيث يقع أمام المقهى سجن استقبال طرة، وهو لمن يحاكمون ولم تصدر ضدهم احكام نهائية بعد، وهؤلاء الأكثر عذابا -كما تقول أم حسن، المسجون بالداخل من ستة أشهر، متهما فى قضية خطف- فهو يلقى معاملة المجرمين، بينما لم تصدر المحكمة قرارا يدينه وتضيف :" تقارير الطب الشرعى برأته، لكن المحكمة لم تصدر حكمها بعد، وبينما نأتى للزيارة كل أسبوع, نحضر فى الخامسة صباحا لتسجيل اسمائنا، لنضمن أن ندخل مبكرا، بدلا من قضاء النهار كاملا، فى الانتظار، ورغم ذلك لانغادر قبل الخامسة، وغالبا مايمنعون الطعام الذى نحضره". ليست الأطعمة وحدها التى تمنع أحيانا ولكن أيضا أى أجهزة شخصية، وعلى رأسها الموبايل. الحاجة أم أحمد -صاحبة المقهى، التى تبدو مشغولة تماما فى فترة الصباح، خاصة منذ التاسعة، عندما يبدأ حراس السجن على الرصيف المقابل للمقهى، فى مناداة أسماء من سيدخلون للزيارة-، مهمتها تلقى أجهزة الموبايل، ووضعها فى أكياس مرقمة، ورصها فى الدرج الكبير بالطاولة التى تجلس خلفها، والتى تظل عندها على سبيل الأمانة لحين خروج الزوار وتعتبر هذا العمل -كما تقول- خدمة إنسانية لأهالى المساجين.. بينما تسمح لهم كذلك بتناول إفطارهم من المطعم الصغير المجاور للمقهى، والذى لايتسع لجلوس أحد مكتفية بخدمة تقديم المشروبات الساخنة والباردة، ونادرا ما تقدم الشيشة أو أى خدمات أخرى من المعروفة فى المقاهى. وتضيف: "المقهى افتتحه زوجى عام 64، كانت المنطقة خالية من السكان تقريبا، وكان السجن هو حدود العمار، ولكننا سكنا بطرة، وافتتحنا المقهى واكتشفنا وقتها أن أهالى المساجين لايجدون مكانا للجلوس عليه، وأصبح المقهى المأوى الوحيد لهؤلاء، ولذلك نحن ،ول مقهى يفتح أبوابه فى المنطقة.. فالناس تأتى للزيارة منذ الفجر، لتضمن الدخول ويخلو المقهى تماما من الرواد فى الإجازات والأيام، التى لايسمح فيها بالزيارة وقد ارتبط رزقنا بزيارات السجن، لذلك نسمح لأهالى المساجين بأن يجلسوا طوال اليوم بلا حرج فنحن نقدر ظروفهم ومعاناتهم". سجن طرة واحد من أقدم وأكبر السجون المصرية، يزيد عمره على نصف قرن ويحوى بداخله سبعة سجون، تحيط بها جميعا أسوار عالية، وهو من سجون الحراسة ومختلفة الأهداف، وأحدثها هو سجن استقبال طرة، أو سجن التحقيق، كما يسميه الأهالى، والذى أنشئ عام 1981 قبيل وفاة الرئيس السادات بقليل بعد تنامى نشاط الجماعات الإسلامية، وشهد حضورا هائلا للجماعات الإسلامية، التى اعتقلت أعداد ضخمة من أفرادها، عقب اغتيال الرئيس أنور السادات فى أكتوبر 1981 ،وبعد افتتاحه بشهور قليلة، كما أشار ممحمد زارع، رئيس الجمعية المصرية لحقوق السجناء. المساجين الحقيقيون، هم الذين يعيشون فى الخارج، فلسفة إيناس السوداء، تلك عبرت عنها بشكل مباشر، عندما سألتها عن الزيارة الأسبوعية التى تقوم بها لأبيها المحكوم عليه ب11 عاما وينتظر نتيجة الاستئناف، حيث تقول إيناس عادل كامل :" أبى ربما يموت فى الداخل، فعمره اثنان وستون عاما، والجريمة التى سجن بسببها، حدثت منذ عشرين عاما، ولكنهم قبضوا عليه قبل خمسة أشهر فقط، بعد أن أحيل للمعاش ولاأعرف ماالفائدة من حبس رجل مسن ومريض .. نحن من يدفع ثمن هذا، فيوم الزيارة هو يوم عذاب وبهدلة وإهانة، لم يتحملها أحد من إخوتى، بينما مازلت أنا صامدة.. وأحضر من شبرا كل أسبوع لكى أراه ولكننى أرى ذلا لم أره فى حياتى، فأنا أحضر من السادسة، وأنتظر دورى بعد أربع أو خمس ساعات لان هناك أهالى يبيتون على الرصيف، لضمان دخولهم مبكرا". تحكى إيناس، بينما تحتسى كوب شاى وبسكويتا، تقول إنه إفطارها، وكذلك تحكى عن التفتيش الذاتى، الذى تتعرض له مرتان فى كل زيارة، وتخجل منه كثيرا, وعن البوابات الثلاث، التى تعبر منها، حتى تصل لمكان لقائها بأبيها، الذى لايستمر أكثر من أربع دقائق، لايكتمل فيها حوارهما، وتسقط نصف كلماته لشدة الزحام والضوضاء، وتحكى عن الطعام، الذى يبعثر، ويضيع جهدها الأسبوعى فيه، ولكنها رغم ذلك لاتستطيع أن تقطع زيارتها لأبيها، حتى لو كات رحلة عذاب وانتظار على مقهى، يحتسى رواده الشاى، ممزوجا بالألم، وممتلئا بحكايات أنين المسجونين.