أن تتفق الأحزاب – عمداً أو دون قصد- على ألا تتفق، فمن البديهى أن يجنى الشعب وحده ثمار هذه الفرقة، بعدما وجد نفسه وحيداً فى مواجهة تيارات سياسية تختلف – كماً وكيفاً- فى توجهاتها وعقائدها، الأمر الذى دفع عدد من خبراء وأساتذة السياسة إلى إطلاق تحذيرات خطيرة من استمرار هذه الانقسامات بين القوى السياسية، مؤكدين أن ذلك سيؤدى –قطعاً- إلى تأخر مصر لعدة سنوات فى تحقيق أهداف الثورة، خاصة فى ظل محاولة بعض القوى القفزعلى قوى أخرى، لاكتساب مزيد من المصداقية المزعومة على حساب المواطن وحده. ماسبق أكده الدكتور محمد السعيد إدريس، الخبير بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، قائلاً إن هناك – بالفعل- تباينًا بين مصالح القوي السياسية المختلفة، مما أدي إلي ظهور الانشقاقات الدائمة فيما بينها وعدم اتفاقها علي رأي واحد، مضيفاً: لدينا قوي سياسية كانت تعمل ولاتزال مع نظام الرئيس السابق حسنى مبارك، وهي الأحزاب الكرتونية والتي كانت "بتتفرج" علي الثورة، ثم حاولت لعب دور فيها من خلال تكوين ما عرف بلجنة الحكماء. كما أننا لدينا –وفقاً لإدريس- قوي سياسية كانت محرومة من الشرعية، مثل أحزاب الكرامة والوسط والإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية والسلفية، ثم التيار الليبرالي وأجندته التي بدأت تختلف حول الموقف من إسرائيل. هنا يضيف: كل هذه القوي عبارة عن ألوان الطيف الكاملة ولكل منها مصالحها الشخصية، وليس هناك أهداف جامعة أو سقف في مشاريع كل منها، فكل له ارتباطاته وما ينشده في مصر في الوقت الذي نسعي خلاله إلي تأسيس دولة جديدة. الحل من وجهة نظر إدريس، كناشط سياسى، يكمن في تغليب الضمير الوطني علي المصالح الذاتية، ويفسر ذلك بقوله: "المزايدات ممنوعة والمصالح قد تتباعد وتتقارب لكن تظل مصرهي الباقية قبل كل حزب وقبل كل تيار أو مصلحة، فالمزايدات ممنوعة والضمير الوطني هو الذي يجب تغليبه حتي لا تغرق البلاد". بدوره رفض الدكتور محمد حسين، أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وصف القوى السياسية الموجودة فى مصر بأنها "قوى سياسية حقيقة" بل أطلق عليها "مشروع قوى سياسية"، مبرراً ذلك بأنه ينبغى على هذه القوى أن تُثبت نفسها فى الساحة السياسية ثم تأخذ وضعها ويتبين هل هى قوى بالفعل أم لا؟ وقال" القوى السياسية يسيطر عليها الاختلافات الأيدولوجية والمصلحية التى تُمزقها". وأشار حسين إلى وجود أحزاب سياسية شكلية لا وجود لها، ضاربًا مثالًا على ذلك بحزب التجمع، مبرًرا ذلك بأن هذا الحزب لولا أن الحزب الوطنى "المنحل" تفضل عليه ببعض المقاعد فى البرلمان السابق، لم يكن ليحصل على مقعد واحد، حيث كان الوطنى يتفضل بتوزيع العطايا "المقاعد" على بقية الأحزاب، ولكن الساحة أصبحت الآن خالية، ولكن الصورة "قاتمة"، وأنه نتيجة لبطء الحركة فى اتخاذ القرارات، ووجود مظالم كثيرة عند الناس، حدثت حالة من الربكة فى الحياة السياسية. وأكد أستاذ العلوم السياسية ، أن المؤشرات تشير إلى ضرورة أن تمر مصر بالتجربة الديمقراطية منذ بدايتها، مضيفًا "على الرغم من أننا مؤهلون للديمقراطية، إلا أننا لن نصل إلى مستوى البرلمان البريطانى من أول جولة". فى شأن متصل يري الدكتور عمرو هاشم ربيع، رئيس وحدة الدراسات البرلمانية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، أن الاختلاف الواضح بين القوي السياسية في أغلب اللقاءات التي تجمع بينهم، وعدم اتفاقهم علي موقف موحد يأتي نتيجة المرجعية السياسية لكل منها، فلدينا القوي التي تمثل التيار الليبرالي واليسار والتيار الإسلامي الوسطي والمتشدد وغيرها. لكن لكل من القوي السياسية مصالحها الخاصة، التي قد تتعارض مع مصالح القوي الأخري، على حد وصف ربيع، الذى ضرب هنا مثالاً بما يحدث في القوائم الانتخابية والاستشعار المسبق لكل منها بأن لديه شعبية أكبر تمكنه من حصد مقاعد برلمانية أكثر من الآخر وهو ما يجعله دائما يتخذ مواقف مسبقة قد تتعارض في كثير منها مع مواقف غيره. من جانبه، رأى المهندس أحمد بهاء الدين شعبان، وكيل مؤسسى الحزب الاشتراكى المصرى، أن القوى السياسية توحدت بشكل جيد خلال الثورة، ومن قبلها فى مواجهة العدو الواحد للتخلص من استبداد النظام الحاكم السابق، وأضاف "إذا تمت الانتخابات القادمة فى ظل حالة الانفلات الأمنى الموجودة حاليا ستكون "كارثة" و"معركة دامية" بين البلطجة وجماعات التطرف الدينى، وفلول الحزب الوطنى، ولن يكن هناك أى وجود فيها للشعب، لأن مجلس الشعب القادم سيكون دوره إنهاء الثورة". ولفت شعبان إلى ما قامت به جماعة الإخوان المسلمين عندما قفزت من حلفها مع النظام، لتتحاور مع اللواء عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية السابق، ومن بعده مع الدكتور أحمد شفيق، رئيس الوزراء السابق، وهو ما بدأت به الجماعة للخروج من عباءة الثورة، وبدى لهم أن مصلحتهم المباشرة فى إبرام صفقة مع النظام. غير أن وكيل مؤسسى الحزب الاشتراكى لفت إلى أن الاستفتاء الذى تم على التعديلات الدستورية الأخيرة، أدى إلى شق الصف الوطنى، لتصبح التيارات الدينية فى صف والليبرالية واليسارية فى صف آخر، وقال "فى اعتقادى أن هذا الانشقاق كان موضوعياً، وهناك بعض القوى السياسية مصلحتها مع المجلس العسكرى لرؤيتها أنه حقق لهم الجزء الأكبر من مصالحهم، وأبرز مثال على ذلك هم السلفيون الذين تخلصوا من عباءة أمن الدولة". وبنبرة حزينة قال: "الثورة تدخل غرفة الإنعاش، والشعب صاحب الثورة خارج كل الحسابات، والقوى السياسية الموجودة على الساحة الآن لن تصل إلى حالة من التوافق نتيجة للأنانية السياسية، وحتى لو حدث، سيكون ضد مصلحة الشعب". وفى محاولة لإعادة بث روح التفاؤل، والتأكيد على أن الأمل لا يزال فى جيب مصر والمصريين، قال شعبان "لا أثق إلا فى المواطن البسيط، صاحب الثورة الحقيقى الذى قدم ألف شهيد، وما نسعى إليه الآن هو كيفية استعادة روح الثورة مرة أخرى". إلى ماسبق، رأى خالد تليمة، عضو المكتب التنفيذى لائتلاف شباب الثورة عن حزب التجمع، أن السبب الحقيقى وراء الفُرقة السياسية هى الانتهازية الشديدة فى محاولة للحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب الثورة، وقال "كان يُفترض أن تظل القوى السياسية فى خندق واحد، لحين وضع دستور جديد يضمن وجود أسس لتنافس شريف يخلق حالة من التوازن، وعلى الرغم من أن طبيعة السياسة هى الاختلاف، فإنه فى الوقت الحالى لا يحتمل وجود اختلافات إلا بعد تهيئة المناخ للتنافس". اتفاقاً مع كل ماقيل سابقاً، لكن من وجهة نظر مختلفة، قال الدكتور جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية، وعضو مجلس الشعب السابق، إن الفتنة السياسية التي اتخذها المجلس العسكري كأسلوب لإدارة المرحلة الانتقالية، وتغذية الفٌرقة بين القوي السياسية، كانتا وراء ما يحدث من انقسامات موجودة حاليًا بين القوي الوطنية. أضاف: "ما حدث فى أمام ماسبيرو حصاد الفتنة السياسية، خصوصًا أن المجلس العسكري لم يتعامل علي أنه شريك في الثورة أو حتى حامٍ لها، وإنما هدفه الأساسي استمرار نظام مبارك وبقاء الأوضاع السياسية علي ما كانت عليه"، موضحًا أن المصالح الضيقة التى يعليها كل طرف تأتي ضمن أسباب انقسامات القوي السياسية، وأنه عندما تم الاتفاق علي شكل النظام الانتخابي، واجه المجلس العسكري هذا الاتفاق بالرفض، ورغم ذلك قال بتفاؤل حذر:" المرحلة الانتقالية شديدة الضبابية". بعيداً عن رأى زهران فيما يحدث الآن بين القوى السياسية، كانت الانتهازية السياسية عنوان المرحلة من وجهة نظر عصام شيحة، المحامي وعضو الهيئة العليا لحزب الوفد، الذى اعتبر هذه الانتهازية أنها السبب الرئيسي وراء انقسامات القوي السياسية حالياً، وقال:" إذا لم تتوافق القوي السياسية في هذه المرحلة من خلال حوار وطني واسع، والتنازل عن بعض مطالبها سيكون مصيرها الفشل". كان طبيعياً عند شيحة أن تحدث انقسامات بين أطراف القوى الوطنية بعد سيطرة استمرت 60 عامًا من جانب حزب واحد، مؤكداً أنه بالإضافة إلى ماسبق، فهناك انتهازية أخرى تتمثل فى التيار الإسلامي، ورغبته في القفز علي السلطة من خلال الإسراع بإجراء الانتخابات تحت أي ظروف تثير تنافس التيارات الأخرى وهو ما يؤدي إلي عدم الاتفاق.