الصين تتصدر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى بحلول 2030 باستثمارات 150 مليار دولار فى ظل هيمنة عدد محدود من شركات التكنولوجيا العملاقة –من فيسبوك إلى تينسنت- على شبكة الانترنت العالمية، تتزايد المخاوف من تأثير نفوذها مع انتشار الجدل حول فقدان الشبكة ل»براءة» لامركزيتها وحقيقة ان حماية التكنولوجيا الامريكية هى الدافع الحقيقى وراء الحرب التجارية التى يشنها ترامب على الصين.
هناك شركات تكنولوجيا عملاقة تعمل ك»ذاكرة الانترنت»، فجوجل عبارة عن قائمة بالمواقع وقاعدة بيانات لتاريخ بحث المستخدمين، كما تحتفظ فيسبوك بسجل لهوية المستخدمين والتفاعلات فيما بينهم. أما امازون فلديها سجل بأرقام بطاقات الائتمان والسلوكيات الشرائية للمستخدمين. ويشير محللون إلى تنامى مخاوف من ان يعزز الذكاء الاصطناعى هيمنة الشركات العملاقة، فالسيطرة على حجم اكبر من البيانات معناه خدمات افضل تجذب مزيدا من مستخدمى الشبكة، ما يؤدى إلى الحصول على حجم أكبر من البيانات، وهكذا فانه فى المستقبل سوف تتحول واحدة من شركات الانترنت العملاقة إلى «قائدة الذكاء الاصطناعى» ولا تتحكم فى العالم الرقمى فحسب وإنما فى صناعات اخرى كذلك، فهل ستكون تلك الشركة امريكية أو صينية؟ الإجابة تأتى فى سياق الحرب التجارية التى يشنها الرئيس الامريكى دونالد ترامب على الصين، ويقول محللون ان مبادرة بكين الصناعية والمعروفة باسم «صنع فى الصين 2025» اثارت قلق المسئولين الامريكيين، وان الدافع الحقيقى وراء نزعة الحمائية للادارة الامريكية والتوترات التجارية الحالية هو الصعود التكنولوجى السريع للصين، ففى اوروبا قانون GDPR يفرض قواعد تنظيمية مشددة على شركات التكنولوجيا، مثل حذف البيانات الشخصية للعميل فى حالة طلبه، لكن فى الولاياتالمتحدة لوبى التكنولوجيا يحول دون فرض قواعد تنظيمية مشابهة، اما الصين التى تفرض رقابة صارمة على مستخدمى الشبكة فتتمتع شركاتها التكنولوجية بحرية اكبر من منافسيها. شبكة الإنترنت تفقد «براءتها»: فى عالم التكنولوجيا، حيث ان وسيلة الاتصال بشبكة الانترنت لم تعد تقتصر على اجهزة الكمبيوتر، تحولت التليفونات الذكية واجهزة التابلت لبوابة عبور الاون لاين فى تحول صارخ لاحد ابرز معالم التطور التكنولوجى الحديث. وربما كان الاكثر خطورة فى تلك التطورات ايضا ما يتعلق بالحكومات التى لم يكن لها سلطان على الشبكة فى الماضى، لكنها اليوم باتت تستخدم شركات الانترنت الكبرى لخدمة سياساتها، مثل منع مواقع غير مرغوب فيها مثلما يحدث فى الصين، وهو ما يتناقض مع الرسالة الاولى لانطلاق الانترنت قبل نصف قرن -فى 29 اكتوبر 1969- بأن نظام الشبكة يعتمد على «لامركزية السلطة والحرية فى التصرف» وان جمهورية الانترنت دون رئيس او ملك. واحتفظت الشبكة ب»لامركزيتها» حتى بعد اطلاق ملايين المواقع الالكترونية وعشرات الآلاف من الشركات الناشئة منذ منتصف التسعينيات، وكذلك بعد انهيار فقاعة الدوت كوم فى مطلع الالفية، استمرت لامركزية النشاط الرقمى فى شكل جديد، «المدونات». لكن اليوم، فقدت الشبكة «لامركزيتها» البريئة بتحول الانترنت إلى وحش من نوع مختلف، مع تعامل مليارات التليفونات والاجهزة الاخرى الذكية، بالاضافة إلى شركات الحوسبة السحابية، مع حجم هائل من البيانات. وأسهمت مركزية الانترنت وتزايد اهمية استخدامات البيانات الشخصية لمستخدمى الشبكة فى خلق ممارسات احتكارية، ما دفع كثيرين إلى المطالبة بمعاملة شركات التكنولوجيا العملاقة كشركات المرافق من اجل عدالة توزيع مكاسب الذكاء الاصطناعى. ويرى خبراء أن مخاطر مركزية الانترنت تكمن فى كبح فرص الابتكار، فعلى الرغم من كون عمالقة التكنولوجيا مصدر لكثير من الابتكارات الحديثة فإنها ايضا تعوق الشركات الاخرى عن الوصول اليها. من ناحية اخرى، كان لتوحش مركزية الانترنت تداعيات سياسية خطيرة، وهو ما كشف عنه التدخل الروسى فى الانتخابات الامريكية، فتركيز البيانات الشخصية لمئات الملايين من مستخدمى شبكة الانترنت لدى شركات معدودة يمثل خطورة كبيرة اكدتها الفضيحة الاخيرة المعروفة باسم «كامبريدج اناليتيكا» او شركة الاستشارات السياسية التى حصلت على بيانات 87 مليون مستخدم ل»فيسبوك»، وكذلك كانت فضيحة «تسريبات سنودن» عام 2013. وفى مواجهة توحش مركزية الانترنت، هناك اتجاه جديد رصده تقرير لمجلة الايكونومست من خلال فعاليات مؤتمرات التكنولوجيا، فالمنتديات الاخيرة شهدت اطلاق شركات ناشئة لخطط طموح، تستند عادة إلى تكنولوجيا سلاسل الكتل –أو تكنولوجيا «البلوك تشين» الخاصة بالعملات الرقمية مثل بيتكوين- وذلك على وعد ب»لامركزية» عالم الانترنت، مرة اخرى، مثلما كانت وعود التسعينيات. لكن لوبى الشركات العملاقة يقول انه دون الخدمات المجانية والتطبيقات سهلة الاستخدام التى توفرها شركات مثل جوجل وفيسبوك، سيكون عدد مستخدمى الشبكة أقل بكثير، ودون الحوسبة السحابية –التى توفر للشركات مساحات تخزين هائلة للبيانات- لن يكون هناك ذكاء اصطناعى، وفى الوقت نفسه هيمنة عدد محدود من الشركات يتيح السيطرة على الجرائم الالكترونية وخطاب الكراهية. وما بين الهجوم الشرس على شركات التكنولوجيا العملاقة ودفاع مؤيديها، يسعى مجموعة من الاكاديميين إلى ايجاد حل وسط من خلال سن القواعد التنظيمية اللازمة، وتشمل اقتراحاتهم تفكيك اندماجات تمت فى الفترة الاخيرة وكذلك اجبار الشركات على مشاركة بعض من بيانات المستخدمين. لكن حلم النشطاء وشركات تكنولوجيا «بلوك تشين» الناشئة فى اعادة الانترنت إلى حظيرة اللامركزية عن طريق تغيير القوانين الاقتصادية للشبكة، يظل حلم وخيال علمى.
الإنترنت الصينى قواعد تنظيمية أقل ورقابة حكومية أكثر: 2 مليون موظف حكومى لإلهاء الصينيين عن القضايا المهمة
تحكم الدولة قبضتها على الفضاء الافتراضى، وسواء من خلال «تينسنت» او «على بابا» تسيطر بكين على العالم الرقمى الصينى، فقبل 20 سنة قامت بكين بإصدار نسختها من الانترنت، وسط مخاوف من ان تلاقى مصير «سور الصين العظيم» والفشل فى حماية البلاد من الغزو الخارجى. لكن، ومن خلال توظيف2 مليون شخص ل»السيطرة على المحتوى الرقمى»، و2 مليون آخرين يعملون لصالح الحكومة يضخون معلومات ودعاية مغلوطة على مواقع التواصل الاجتماعى، نجحت إلى حد كبير فى إقصاء قيم الديمقراطية الغربية مع الاحتفاظ بالروابط الاقتصادية العالمية. كانت دراسة لجامعة هارفارد توصلت فى عام 2017 الى نشر450 مليون «بوست» سنويا -معظمهما لا يهاجم الحكومة أو حتى يناقش مواضيع جدلية- تكمن مهمتها السرية فى إلهاء جمهور مستخدمى الانترنت الصينيين عن القضايا المهمة. على الرغم من تلك القبضة الحديد تتمتع شركات التكنولوجيا الصينية بالحماية التجارية وبقواعد تنظيمية اقل مقارنة بالشركات الغربية ولا سيما الامريكية، وهو السبب الرئيسى فى تعزيز تنافسيتها وتسارع الابتكار فى بعض المجالات. واكبر الشركات «على بابا» و»تينسنت» تسيطر على مجال الخدمات المالية وعلى خدمات الدفع الالكترونى عبر شركات تابعة هى «على بابا» و»وى شات»، وتعد «بايدو» ثالث اكبر شركة تكنولوجيا صينية، وتسيطر «على بابا» و»تينسنت» على معظم رأس المال المغامر فى الصين، بنسبة تصل إلى 50% مقارنة بنسبة لا تتجاوز 5% فى العملاقة سيليكون فالى بحسب إحصاءات ماكينزى. دفعت خطة الرئيس الصينى الطموح لجعل الصين «قوة رقمية عظمى» لاحتكار الحكومة للبيانات الشخصية لمستخدمى الانترنت من خلال تحويل شركات التكنولوجيا لشركات شبه حكومية، وهو ما يبدو بوضوح فى مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى حيث تتطلع بكين للريادة العالمية بحلول 2030 وتخطط لبناء صناعة محلية باستثمارات تصل إلى 150 مليار دولار. وأكبر ميزة تمتلكها الصين بالنسبة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعى هى الحجم الهائل للبيانات، بفضل 770 مليون نسمة هم عدد مستخدمى الإنترنت فى الصين. فتجمع شركة «على بابا» بيانات مطلوبة لبناء مدن ذكية، وتجمع «بايدو» بيانات تخدم صناعة سيارات ذاتية القيادة، اما البيانات التى تحصل عليها «تينسنت» من مستخدمى الشبكة فتفيد الابتكارات الطبية. الصعود التكنولوجى الصينى لا يقتصر على ذلك فحسب، فالبنك المركزى الصينى استخدم تكنولوجيا سلاسل الكتل فى رقمنة الشيكات بما يتيح له تعقبها، ويدرس كذلك إصدار عملة رقمية، وهناك شركة صينية تدرس تقديم خدمة هوية رقمية.
«ويب 3» وتكنولوجيا «سلاسل الكتل»
شهد مؤتمر تكنولوجيا سلاسل الكتل «بلوك تشين» فى برلين خلال شهر مارس الماضى مولد حركة تكنولوجية جديدة، مع انتشار شركات ومشاريع تحمل أسماء غريبة، بعد طروحات اولية بمئات الملايين من الدولارات، يحلم هؤلاء باستخدام التكنولوجيا الجديدة لجعل الانترنت عالم اكثر «لامركزية»بعيدا عن استغلال الكبار. وتعتمد الفكرة على تمكين المستخدمين من بياناتهم أو ما يعرف ب»ويب 3»، لكن بناء الأدوات والتطبيقات الملائمة سوف يستغرق بعض الوقت. بالنسبة للتكنولوجيات الجديدة سيكون الفوز بمعارك جديدة اسهل من إعادة الحرب لمعارك قديمة، على سبيل المثال جوجل لم تتفوق على مايكروسوفت عن طريق ابتكار نظام تشغيل آخر.