من بين أهم المبررات التى ساقها منظرو الحزب الشيوعى الصينى لتفسير إطلاق مدة شغل منصب الرئاسة، وهو الإجراء الذى تم بالفعل الأسبوع الماضى، أن هذه الخطوة مطلوبة ضمن خطوات أخرى لتصليب موقع الدولة والحزب فى مواجهة الصعود المتضخم والسريع لدور الشركات والمؤسسات الخاصة وجماعات الضغط من أصحاب الملايين الجدد الذين يتكاثرون وينتشرون بقوة فى أرجاء البلاد. الإجراء الصينى يمثل انقلابا على الديمقراطية التى هى صنوان لمفاهيم العولمة التى سادت فى السنوات الأخيرة رغم ما حققته العولمة من طفرة اقتصادية هائلة نقلت الصين من مجتمع متخلف لتصبح ثانى أكبر اقتصاد فى العالم فى فترة لم تتجاوز أربعة عقود. والحاصل أن الصين منذ عهد دينج شياو بينج استفادت كثيرا جدا من قوانين وسياسات العولمة التجارية التى ظهرت فى وقت متزامن تقريبا مع توجه الصين نحو تحرير الأسواق، وكانت تلك التجربة الرائعة وغير المسبوقة فى الازدهار الاقتصادى والنمو المستدام الذى سيصل بالناتج المحلى الصينى ليحتل المرتبة الأولى فى العالم متجاوزا الناتج الأمريكى بحلول 2035، أى فى فترة زمنية لا تتجاوز 66 عاما من انتهاج الصين لسياسات الانفتاح الاقتصادى على العالم، وهذه سرعة تصل إلى حد الأسطورة فى التحول من دولة نامية تعانى من الفقر والتخلف إلى أضخم وأكبر اقتصاد فى العالم. ومع ذلك لاحظت الإدارة الصينية ومعها الحزب بعض الآثار المهمة التى صاحبت عمليات النمو السريع جراء العولمة وتبنى نظريات اقتصاد السوق حيث أصبح هناك دور يزداد اتساعا وتغولا يوما بعد يوم لمرافق السوق وجماعات الضغط والمليونيرات الجدد فى الحياة العامة بات يهدد الدور المركزى التقليدى للدولة وأصبحت هذه المؤسسات طامحة لدور أكبر فى توجيه الأمور بالبلاد أى أنها على وشك المطالبة بدور سياسى يعكس حجم مشاركتها فى النجاح الذى بلغته الصين على الصعيد الاقتصادى. ومن ثم فقد أبقت الصين على سياسات اقتصاد السوق ولكنها أوقفت الشكل الديمقراطى بعد ما تبين أنها تمثل حصان طروادة لهيمنة أطراف السوق على سياسات البلاد. القضية هنا لا تخص الصين وحدها، فتآكل دور الدولة وتوغل "لوبيهات" الأعمال والشركات العالمية والضخمة فى الحياة السياسية عقب تبنى دول العالم مفاهيم اقتصاد السوق، كانت من أهم التوقعات التى حذر منها مناهضو العولمة ومدرسة شيكاغو فى الاقتصاد التى أنتجت لنا العولمة وآلياتها فى بداية الثمانينيات بعد أن أقنعت بها أهم اثنين فى العالم فى هذا الوقت.. الرئيس الأمريكى رونالد ريجان ورئيسة وزراء بريطانيا الحديدية مارجريت تاتشر. تلك التنبؤات تحققت بأسرع مما يتوقع الجميع، فقد أسفر الإفراط فى الاستسلام لآليات السوق وفقا لمدرسة شيكاغو عن العديد من المشكلات أبرزها تفاوت معدلات التنمية ليس فقط بين الدول وبعضها البعض ولكن أيضا بين القطاعات والأنشطة الاقتصادية داخل الدولة الواحدة، كما أسفر عن اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء وانتشار الفساد على نحو غير مسبوق فى أنحاء العالم، كما كان لها انعكاساتها الثقافية والاجتماعية المريرة التى هى حديث كل يوم فى الإعلام الغربى وبين الأحزاب السياسية العريقة فى أوروبا "استمرت المفاوضات 5 أشهر لتشكيل حكومة الائتلاف فى ألمانيا بسبب إصرار الاشتراكيين على تهذيب قوانين السوق التى تتبناها ميركل وحزبها لصالح الألمان الأقل دخلا". روسيا، كالعادة، انتبهت مبكرا لخطر آليات السوق الذى أصاب الاقتصاد الروسى بالعفن خلال عهد يلتسين وما لبث الرئيس"الجديد" وغير الديمقراطى أن شن حملة على الفاسدين من المسئولين ورجال الأعمال واسترد مؤسسات النفط التى خضعت للخصخصة الفاسدة وأعادها لصالح الدولة، كما وضع نجوم الأعمال فى السجن ربما خارج إطار القانون. وبتأثير الإفراط فى تبنى قوانين السوق انفجرت الأزمة المالية العالمية فى 2008 وهو ما أدى إلى تدخل الحكومات على عكس قوانين السوق لتكبل المالية العامة بديون هائلة فارتبكت أيضا ميزانيات الدول الكبيرة ما أدى إلى آثار اجتماعية نجم عنها الظهور السريع والواسع لأحزاب اليمين الفاشى الذى لم يبلغ مداه بعد!. الانقلاب على العولمة لا يقتصر على الصين فقط بل إنه وصل إلى عقر دار مدرسة شيكاغو حيث تمثل سياسات الإدارة الأمريكية الحالية تراجعا، ولو غير مدروس، عن غالبية اتفاقات تحرير التجارة العالمية بالانسحاب المباشر تارة وبفرض تعريفات جمركية مؤذية للشركاء التجاريين، ومازلنا فى انتظار خطوات أخرى من أمريكا وردود أفعال مؤكدة من شركائها فى آسيا وأوروبا. ميلتون فريدمان الاقتصادى النابه والحائز على نوبل يعد عراب مدرسة شيكاغو، وقد عمل هو نفسه مستشارا وناصحا لدينج شياو بينج عند بدايات الإصلاح، اليوم الصين مازالت تتمسك بنظريات فريدمان النقدية ولكنها رفضت تغول رأس المال وأصحابه فى الحياة السياسية.. وهذا ما بدأت تنتبه إليه دول كثيرة حتى فى عمق أوروبا مهد الحضارة الحديثة.. فهل لنا علاقة بما يحدث من تطورات؟ ربما يكون هذا مجال لحديث آخر.