«الدوشة» التى افتعلتها التصريحات الصادرة من إسرائيل عما سمى بتوقيع عقد ضخم لتصدير الغاز الإسرائيلى لشركة مصرية خاصة أحدثت قدرا كبيرا من الجلبة وكانت مثار لغط عظيم فى الإعلام المعادى، فيما التزمت السلطات المحلية الحذر فى التعليق على الصفقة مكتفية بعبارات عامة ومطاطة لم تشبع رغبة الناس ولا حتى الأوساط المعنية فيما يتعلق بالظروف المحيطة بالصفقة وتفاصيلها وأهدافها، وهو ما خلق أجواء عبثية بسبب غياب أبسط قواعد الشفافية.. وهذا خطر كبير لا مبرر له ولا تفسير. غياب الشفافية وفر الفرصة للفضائيات المعادية لبث الكثير من المعلومات المغلوطة والأرقام «المضروبة» فى مسعى مكشوف للطعن على مصداقية اكتشافات الغاز الأخيرة وقدرتها على تحويل مصر مرة أخرى إلى دولة مصدرة للغاز فضلا عن سد الاحتياجات المحلية خلال عامين وفقا لما أعلنته الحكومة. هذه الأبواق شككت فى كل شىء حتى فى قدرة الاكتشافات الجديدة على تحقيق الاكتفاء الذاتى بدليل الصفقة الإسرائيلية التى تبرعت «بفبركة» أسعار غير منطقية لاستيرادها فى إطار سياسات المكايدة التى تتبناها هذه الفضائيات بهدف زعزعة الاستقرار فى بلادنا.. كما هو معلوم للجميع. حتى الآن لم نعرف متى جرى التوقيع على العقد بين الشركتين المصرية والإسرائيلية وأين، ولكن الإعلان عنه جرى يوم الاثنين الماضى من تل أبيب خرج بعدها رئيس الوزراء بنيامين ناتنياهو ليعدد مزايا الصفقة ويصف عقدها بيوم عيد لإسرائيل! رد فعل وزارة البترول خرج متأخرا عصر الثلاثاء عبر بيان مقتضب للمتحدث الرسمى المعلومة الوحيدة فيه أن الصفقة لا يمكن إبرامها إلا بعد الحصول على موافقة جهاز تنظيم تجارة وتداول الغاز الذى أنشئ بموجب اللائحة التنفيذية للقانون الذى يحمل نفس الاسم والتى صدرت الأسبوع الماضى. يوم صدور اللائحة التنفيذية ارتفعت أسعار أسهم الشركة الإسرائيلية المشرفة على إنتاج الغاز من الحقلين الإسرائيليين بنسبة 5.7 فى بورصة إسرائيل. وكانت مصر وإسرائيل قد وقعتا فى مارس الماضى اتفاقا مبدئيا يفتح المجال لاستيراد الغاز الإسرائيلى بما قيمته 20 مليار دولار، ومنذ ذلك الوقت تكرر الحكومة على لسان رئيس الوزراء ووزير البترول أن تفعيل هذا الاتفاق لن يتم إلا بشروط محددة فى مقدمتها تسوية مسألة أحكام التعويضات التى حصلت عليها شركات إسرائيلية جراء وقف تصدير الغاز المصرى لإسرائيل منذ عام 2011 للأسباب المعروفة، وأن ينطوى استيراد هذا الغاز على قيمة مضافة تتحقق للاقتصاد الوطنى وأن توافق الحكومة على كل العقود التى يتم إبرامها فى هذا الشأن. مفاوضات تصدير الغاز الإسرائيلى لمصر مستمرة منذ فترة، فهل يعنى إبرام أولى صفقات التصدير حل المشكلات العالقة وعلى رأسها التنازل عن التعويضات المطلوبة التى تناهز المليارى دولار. أما ما بعد ذلك فلا توجد مشكلة فيه من الناحية الاقتصادية لأن إسرائيل الجاهزة حقولها للتصدير منذ منتصف 2016 تعانى من تصريف الغاز لأنها لا تملك أنابيب لنقله إلى المستوردين فى أوروبا ولا تملك كذلك مرافق لتسييل الغاز المكتشف، وهذه تتوفر لدينا من خلال معامل دمياط وادكو وبقية المرافق التى تحتاج إليها عمليات تجارة الغاز، وهكذا فإن تبادل المنافع الاقتصادية متوفر لدى الجانبين، وحسما للأمر كان من الواجب إجبار الشركة المستوردة على إصدار بيان شاف واف يحدد فيه التزاماتها المادية والسعر وتكاليف النقل ووسائله، والأهم توضيح الجهات التى ستنقل إليها هذا الغاز بعد استيفاء حاجات السوق المحلى أى إعادة التصدير فى صورة سائلة وهو الغرض الأساسى من الصفقة التى ستتبعها صفقات أخرى كما ورد فى التصريحات الإسرائيلية. السياسة المعلنة للحكومة هى السعى إلى تحويل مصر إلى مركز لتداول وتجارة الغاز بعدما تيقن الجميع أن البحر المتوسط يعوم على بحر آخر من الغاز ما قلب المعادلات التى تحكم أسواق النفط والغاز فى العالم، ومصر مؤهلة أكثر من غيرها للعب هذا الدور بما تمتلكه من خبرات ومرافق يصعب توافرها فى أى من دول حوض المتوسط، ربما باستثناء تركيا التى تمتلك أحلاما كبيرة ومرافق متواضعة لا تكفى لممارسة هذا الدور. وقد علمنا أن هناك اتفاقات مبدئية موازية جرى إبرامها مع قبرص اليونان والأردن لتعميق الدور المصرى فى هذا المجال . بهذا المعنى فإن توقيع العقد بين الشركتين المصرية والإسرائيلية يمكن أن يكون يوم عيد لنا أيضا بشرط أن نحسن تسويقه ومكاشفة الناس بحقائقه وتفاصيله بدلا من ترك الإعلام المعادى يصول فيه ويجول منتهزا غياب الشفافية ونقص المعلومات الرسمية على نحو ما رأيناه الأسبوع الماضى. الشفافية والحوكمة لم تعد طرفا فى هذا الزمان ومع التطور المذهل فى علوم الاقتصاد والإدارة والمعلومات، وقد أثبتت التجارب أن عدم اعتماد الشفافية يؤدى إلى مخاطر أكثر بكثير ما يسببه من أضرار.