فيما وصل إلى من ردود أفعال يمكن القول إن قرار وزارتى الزراعة والصناعة بمنح تراخيص مؤقتة للمزارع والمصانع لمواصلة العمل يعد واحدا من أهم القرارات الاقتصادية التى صدرت العام الماضى، ورغم عدم تسليط الضوء على آثار هذه التراخيص المؤقتة على السوق فإن النتائج الأولية تؤكد أن هذا القرار يمثل اقتحاما أوليا لميدان الإصلاحات الهيكلية فى الاقتصاد بعد أن شرعنا فى برنامج الإصلاح النقدى والمالى الصعب مع نهايات 2016. وللتذكرة فإن القرار الذى بدأته وزارة الزراعة فى نوفمبر الماضى يقضى بمنح تراخيص مؤقتة لمزاولة النشاط لمدة عام لمزارع الدواجن والمواشى غير المرخصة أو تلك التى انتهى ترخيصها وتحتاج إلى تجديد. ومن بين نحو 80 ألف مزرعة فى أنحاء البلاد فإن 15 ألف مزرعة فقط تعمل بتراخيص سارية «فى النور» بينما بقية المزارع تعمل دون ترخيص أى ضمن الاقتصاد غير الرسمى بما يعنيه ذلك من أضرار صحية وبيئية، فضلا عن ضياع حقوق الخزانة العامة فى أرباح هذه المزارع. مشكلات العمل دون ترخيص لا تنتهى، ولكن الدافع المباشر لدى أصحاب هذه المزارع للحصول على الترخيص هو حرصهم على الاستفادة من برنامج القروض الميسرة الذى طرحه البنك المركزى للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، ولم يكن بالطبع ممكنا التقدم للحصول على هذه القروض دون وجود أوراق ثبوتية لهذه المزارع وفى مقدمتها ترخيص بمزاولة النشاط سارى المفعول، ومن هنا انهالت الطلبات على التراخيص المؤقتة لتوفيق الأوضاع وهنا تتحقق مصلحة الدولة فى ضمان الإشراف على إنتاج هذه المزارع وكذلك متابعة هذه الأنشطة ضريبيا وإدماجها فى الاقتصاد الرسمى. القصة فى الصناعة أشمل وأكثر امتدادا وتشعبا حيث يعلم الجميع منذ سنوات أن عشرات الآلاف من المصانع تعمل خارج الاقتصاد الرسمى دون ترخيص، كما أن آلاف المصانع المرخصة اضطرت لوقف النشاط بسبب عدم تجديد التراخيص الخاصة بها، وهذه كلها ظواهر خطرة تضر بالاقتصاد ليس فقط جراء حرمان الاقتصاد الوطنى من إنتاج هذه المصانع وتشغيلها، ولكن كذلك نتيجة غياب المراقبة والإشراف الحكومى على منتجات هذه المصانع وغالبيتها بالمناسبة غذائية. وبالتالى فإن منح تراخيص مؤقتة لهذه المصانع لمواصلة النشاط «فى النور» يمثل خطوة بسيطة ولكنها ذكية للاستفادة الفورية من هذه الطاقات المعطلة بما يعنيه ذلك من فرص عمل وإنتاج صحى وضرائب ورسوم وغيرها من عناصر القيمة المضافة. التراخيص المؤقتة إجراء عملى له نتائجه الايجابية الفورية، لكن محنة التراخيص فى بلادنا بإجراءاتها وتعقيداتها تمثل أحد أهم معوقات الاستثمار سواء للمشروعات الصغيرة والمتوسطة أو تلك الضخمة التى تتكلف مئات الملايين ومليارات الجنيهات، وهى كذلك تمتد لمختلف الأنشطة الاقتصادية بما فى ذلك السياحة والعقارات والخدمات غير أن تأثيرها يظل الأضخم على نشاطى الزراعة والصناعة. وقد أصبحت إجراءات الحصول على تراخيص مزاولة النشاط مرتعا للفساد بما تتطلبه من إجراءات وتوقيعات جهات عديدة تبدأ من المرافق ولا تنتهى بالأمن الصناعى والأجهزة الرقابية من صحة وعمل وغيرهما. وعلى حد قول أحد الخبراء فإن تغيير الوزراء لم يسفر سوى عن نتائج محدودة فيما يتعلق بتسهيل الحصول على التراخيص لأن قاعدة الموظفين فى الجهاز الإدارى بالدولة هى التى تتحكم فى تفاصيل إجراءات منح التراخيص بما يعنيه ذلك من معوقات إدارية وروتينية ورشى وغيرها مما يعرفه الجميع. الخطوة التى اتخذتها وزارتا الزراعة والصناعة بمنح التراخيص المؤقتة مهمة بلا شك، لكن المشكلة ستعود من جديد بعد انتهاء المهلة التى يتعين بعدها استخراج التراخيص الطبيعية بما تتطلبه من إجراءات معقدة، وهنا يتعين على الحكومة العمل بسرعة على إعادة هيكلة التشريعات واللوائح المنظمة لمنح التراخيص لتبسيطها وإضفاء مزيد من الشفافية على إجراءات استخراج التراخيص والاستفادة من الإمكانيات والمزايا التى تتيحها تكنولوجيا المعلومات فى الحد من أوجه الفساد التى تصاحب عادة إجراءات إصدار هذه التراخيص، وربما تجب الإشارة هنا إلى دور سلبى يمارسه بعض أصحاب المشروعات المطلوب الترخيص لها فى تعقيد الأمور وعرض الرشاوى للتهرب من تنفيذ بعض الشروط أو تخفيض الأعباء المالية المطلوبة لإصدار هذه التراخيص، وهذه الممارسات تتعين مواجهتها بالشدة الواجبة لأنها تفاقم من صعوبة الأمر والخاسر الأساسى فى كل ما يجرى من مراوغات هو الاقتصاد الوطنى والناس. قد يكون مفيدا التفكير فى إنشاء مكاتب شبه حكومية تختص بإنهاء إجراءات التراخيص وتكون وسيطا نزيها بين الشركات وأصحاب المشروعات وبين الجهات الحكومية لضمان الالتزام بصيانة حقوق الدولة ومصالح أصحاب المشروعات دون ضرر يقع على أى من الطرفين، هذا مقترح وهناك مقترحات كثيرة لوقف المعوقات البيروقراطية فى مجال إصدار التراخيص، التى هى واحدة من أهم أسباب ترتيب مصر المتأخر فى التصنيفات الدولية للشفافية وأداء الأعمال وغيرها من التصنيفات التى يعتمد عليها المستثمرون فى اتخاذ قرارات الاستثمار فى بلادنا.