دخلت مصر تجربتها الثانية للإصلاح الاقتصادى والاجتماعى ببرنامج وطنى تم تصميمه بعناية شديدة ويطبق على مدار ثلاث سنوات (11 نوفمبر 2016 - 10 نوفمبر 2019). كانت تجربة مصر الأولى فى الإصلاح الاقتصادى إبان فترة حكومة د. عاطف صدقى، فى مايو 1991 وعلى مدار 6 سنوات، نجحت مصر خلالها من استعادة توازنها المالى، وقطعت شوطا كبيرا فى إصلاح هياكلها الاقتصادية المشوهة، وإعادة بناء شبكة أمانها الاجتماعى. لقد كان من المفترض استمرار الحكومات المعاقبة فى بذل مزيد من الجهود الإصلاحية باعتبارها أسلوب ونهج حياة، لكنها للأسف عادت لممارسة حالة التوقف ثم التقدم (Stop- Go) أو التجربة والخطأ Trial and Error)) التى كانت سائدة فى فترة ما قبل 1991، مع غياب كامل لبرامج إصلاحية شاملة. فى هذا الخصوص، لابد أن نذكر كلمة حق فى الجهود التى بذلتها حكومة د. نظيف من إصلاحات، إلا أنها اقتصرت على الجوانب المالية (مصرفية وغير مصرفية) فى إطار برنامج مصرى لإعادة الهيكلة المالية على مرحلتين بدعم من البنك الدولى خلال الفترة (2004 -2012)، ورغم التحسن الملحوظ فى المؤشرات المالية ومعدلات النمو فى تلك الفترة، فإن جهودها فى مراعاة البعد الاجتماعى لم تكن كافية، بدليل تفاقم الاختلالات الهيكلية وزيادة نسب الفقر، التى كانت أحد الأسباب وراء ضعف وهشاشة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى هيأت لحراك جارف أدى لخروج كل فئات الشعب المصرى فى 25 يناير مطالبة بالتغيير، وبالفعل استطاع شعب مصر، بحماية قواته المسلحة، أن يسقط فى غضون عامين ونصف العام، ليس فقط نظام مبارك ولكن أيضا نظام الإخوان فى 30 يونيو 2013، ليضع أسس بنيان اقتصادى قوى، وليبدأ مرحلة جديدة من الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى كنهج حياة. بعد أن تحقق الاستقرار الأمنى والسياسى فى مصر، بدعم من قواتنا المسلحة والأمن المصرى، وإعادة بناء أركان الدولة المصرية بوضع دستور للبلاد وانتخاب رئيس وبرلمان لها، قامت حكومة المهندس / شريف اسماعيل منذ توليها فى سبتمبر 2015 بالسعى نحو تصميم برنامج وطنى شامل للإصلاح الاقتصادى، ومخاطبة المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين) لطلب المشورة الفنية، مع تلمس الطريق للحصول منهما على تمويل كاف لتنفيذ هذا البرنامج وملء الفجوة التمويلية. خلال السنة الأولى اجتهدت حكومة م. شريف إسماعيل، وقامت بتنفيذ عدة إجراءات وسياسات اقتصادية تستهدف علاج بعض الاختلالات المالية، منها سياسات مالية وتسعيرية لاحتواء العجز فى الموازنة العامة لتوفير التمويل اللازم للمشروعات القومية فى البنية الأساسية وتطوير العشوائيات، واحتواء الزيادة فى الدين المحلي. وفى هذا الصدد، قامت الحكومة بتطبيق منظومة الكروت الذكية لترشيد دعم رغيف العيش والسلع التموينية، ورفع أسعار الطاقة ، وإصدار قانون الخدمة المدنية كإحدى الخطوات الجادة فى إصلاح الجهاز الإدارى للدولة واحتواء الزيادة فى مرتبات العاملين به. أيضا اتخذت الحكومة إجراءات نحو تخفيض فاتورة الواردات بهدف تقليص العجز فى الميزان التجارى للدولة. أما على صعيد السياسة النقدية وسعر الصرف، فقد حاول البنك المركزى المصرى، فيما يبدو، تطبيق سياسة نقدية معتدلة لاستهداف التضخم بالتوازى مع تخفيض سعر الجنية بقيمة 112 قرشا مقابل الدولار، أى بنسبة تبلغ نحو 14% دفعة واحدة (من 7.76 جنيه/ دولار إلى 8.88 جنيه/دولار). لقد أثمرت تلك الجهود الإصلاحية عن نتائج إيجابية انعكست على تحسن معدلات النمو لتبلغ نحو 3.5% وانخفاض البطالة إلى 12.6% من قوة العمل وعجز الموازنة إلى 12.5% من الناتج المحلى الإجمالى. ورغم ذلك، كان الوضع الاقتصادى هشا وينذر بالخطر وارتفاع درجة عدم اليقين، حيث لم تكن مصر قادرة على الاقتراض الخارجى من أسواق المال العالمية بشروط أفضل بسبب انخفاض تصنيفها الائتمانى (CCC+). أيضا، تعددت أسعار صرف العملة ووقع الجنيه المصرى تحت ضغوط المضاربات الشديدة فى السوق السوداء داخل مصر وخارجها. عند هذا الحد، كان لابد من وقفة جادة للبدء فى اتخاذ خطوات جريئة وصعبة على مسار الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى. لذا عقدت السلطات المصرية (الحكومة والبنك المركزى)، بدعم قوى من الرئيس عبد الفتاح السيسى، العزم نحو تبنى تلك الخطوة، وذلك بأن قامت فى 3 نوفمبر 2016 باتخاذ أهم إجراءين مسبقين Prior Actions، وهما تحريك أسعار الطاقة وتحرير سعر الصرف. لقد كان الإجراء الثانى هو الأكثر جرأة، حيث تم تعويم قيمة الجنيه المصرى مقابل الدولار بهدف توحيد صرفه والقضاء على السوق السوداء. وعلى الفور، وفى 11 نوفمبر، وافق مجلس المديرين التنفيذيين بصندوق النقد الدولى على قرض تبلغ قيمته 12 مليار دولار لتمويل البرنامج المصرى من خلال نافذة تمويلية تعرف بترتيب الصندوق الممدد، وهو الحد الأقصى الذى يمكن أن تقترضه دولة عضو بالصندوق والبالغ 4.22 مرة من حصة مصر بالصندوق (3 مليارات دولار). يقوم الصندوق بصرفها على 6 شرائح على مدار ثلاث سنوات، تم صرف الشريحة الأولى بقيمة 2.75 مليار دولار، أما باقى الشرائح فيتم صرفها بعد مراجعات دورية (6 أشهر). لقد كانت موافقة الصندوق، كبيت خبرة دولى، على تمويل برنامج الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى المصرى بمثابة شهادة ثقة تشهد بأن هذا البرنامج إذا ما طبق بحرفية فإنه يضمن، بنهاية الفترة، أن يحقق التعافى الاقتصادى ومن ثم تحسين الأحوال المعيشية للمصريين بأقل مخاطر اجتماعية ممكنة، وفى النهاية يكون قادرا على سداد التزاماته الخارجية. وفى العدد القادم سوف نستعرض تقييما للنتائج التى تحققت بعد انتهاء السنة الأولى لبرنامج مصر فى الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى. أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة والخبير السابق بصندوق النقد الدولى