نشرت مجلة «الايكونومست» تقريرا مطولا قبل ايام بينت فيه ان المخاوف بشأن أسعار الاصول حول العالم أدت إلى إقبال المستثمرين على شراء السندات المصرية ضمن مجموعة من الدول التى كانت تلقى عزوفا فى السابق، ولا شك ان سلسلة الاصلاحات المالية والنقدية التى نمر بها قد ضاعفت من اطمئنان المستثمرين، صناديق وأفرادا، بشأن جدوى الاستثمار فى هذه السندات. وقد رأينا تطبيقا عمليا لهذا التوجه من خلال الاقبال الكبير على الاكتتاب فى السندات الدولارية التى طرحتها وزارة المالية خلال الفترة الماضية بقيمة 7 مليارات دولار حيث تمت تغطية الاكتتابين فى فترة قياسية وبعدة اضعاف القيمة المطروحة، وفى الوقت نفسه شهد العام الحالى إقبالا هائلا على شراء أذون الخزانة التى تصدرها وزارة المالية بالجنيه المصرى حيث بلغ حجم استثمارات الاجانب فى هذه الاذون نحو 18 مليار دولار.. وهو رقم قياسى لم تشهده الاسواق المحلية من قبل.
ويقتضى الامر التنويه بالفارق بين مشتريات الاجانب للسندات الدولارية التى تطرحها مصر فى الخارج وبين الاكتتاب فى اذون الخزانة بالجنيه فى الداخل، وكلاهما أصبحا الان مصدرا مهما للنقد الاجنبى ساهما إلى حد ما فى التغلب على ازمة موارد النقد الاجنبى التى يعانى منها الاقتصاد الوطنى للاسباب المعروفة. النوع الاول اكثر امانا حيث تقيد هذه السندات بمدد زمنية معينة «ما بين ثلاث وسبع سنوات» لا يحق للمشترى المطالبة بقيمتها الا بعد انتهاء المدة اللهم الا اذا طرحها للبيع فى الاسواق الدولية. هذا النوع من السندات يوفر موردا معقولا للنقد الاجنبى ضمن برنامج واضح تعلم فيه الدولة مواعيد السداد بطريقة محددة، ومن الطبيعى ان هذا البرنامج يتضمن تدابير محددة للالتزام بتوفير مقابل هذه السندات عند استحقاقها، ومن ثم لا تسبب ارتباكا لاسواق الصرف مثلها فى ذلك مثل بقية مديونيات الدولة بالنقد الاجنبى للدول والمؤسسات، وان كانت بأسعار فائدة اكبر. اما النوع الثانى، اى الاستثمارات الاجنبية فى السندات والاذون المصدرة بالجنيه، فهذا شكل آخر يعمل بآلية مختلفة حيث يختار المستثمر الاجنبى تحويل العملات الاجنبية إلى الجنيه بهدف شراء هذه الاذون، وهى عادة قصيرة الاجل، ليستفيد بالفارق بين أسعار الفائدة المرتفعة على الجنيه مقارنة بأسعار الفائدة المتدنية على الدولار أو اليورو، ثم يختار بعد ذلك اما ان يمضى قدما فى تجديد الاكتتاب فى هذه الاذون أو الاكتفاء بما حققه واعادة تحويل أمواله إلى العملة الاجنبية، ثم إلى الخارج. وبسبب سرعة دخول وخروج هذه الاستثمارات غير المباشرة وحركتها الفجائية اطلقت عليها الاسواق «الاموال الساخنة» لأنها تتنقل من سوق إلى اخر طمعا فى تحقيق مكاسب سريعة نتيجة التباين فى أسعار الفائدة من مكان لاخر ومن دولة لاخرى. هذه الظاهرة -ظاهرة الاموال الساخنة- تصاعدت مع بداية الالفية الثانية بعد ان وجد مديرو الصناديق انها تحقق مكاسب سريعة فى فترات قصيرة، وبسبب سرعة تنقلها فهى تترك وراءها آثارا جانبية سلبية ولا سيما على أسعار الصرف، ولهذا قررت دول كثيرة عدم الترحيب بهذا النوع من الاستثمارات غير المباشرة، وفى الاعوام التى تلت انفجار الأزمة المالية العالمية فى 2008 سارعت عدة دول مثل كوريا واندونيسيا وماليزيا إلى سن تشريعات تحد من حركة هذه الاموال الساخنة فى اسواقها ومن بينها فرض ضرائب مؤثرة تجهض فى النهاية الارباح التى يتوقع مديرو الصناديق تحققها جراء «التنطيط» بين العملات! فى مصر لم نكن نعرف هذه الظاهرة حتى عام 2009 حيث يشير تقرير لهيرمس ان حجم استثمارات الاجانب فى اذون الخزانة فى مارس 2009 لم يكن يتعدى المليار دولار ولكنه اخذ فى التصاعد بسرعة ليصل فى مارس 2010 إلى 8 مليارات دولار ثم وصل إلى قمته فى نهاية 2010 ليتجاوز 11 مليار دولار. وعقب وقوع ثورة يناير 2011 اندفع الاجانب إلى الخروج من سوق اذون الخزانة بالجنيه وتحويل اموالهم إلى الدولار مرة اخرى فى فترة زمنية قياسية لم تستغرق ستة اشهر، وقيل وقتها ان ضغوط المستثمرين الاجانب فى السندات بالجنيه كانت من بين اهم اسباب التأكل السريع الذى شهده الاحتياطى الاجنبى بحوزة النقد الاجنبى فى تلك الفترة. اليوم وبعد ان بلغ معدل الفائدة على اذون الخزانة نحو 18% فإن المستثمرين، صناديق وافرادا، عادوا بقوة إلى السوق المصرى اغتناما للفارق الهائل فى أسعار الفائدة على الجنيه مقارنة بالفائدة المتدنية على الدولار والعملات الاخرى، وفى هذه العودة ميزة قد يراها البعض على صعيد تليين أزمة النقد الاجنبى، ولكن محاذيرها معروفة وقد سبق ان ذقنا مرارتها. كلنا ثقة فى قدرة البنك المركزى على التعامل مع الأمر والتحوط له للاستفادة من إيجابياته وتجنب مخاطره، وفى الحسبان تجاربنا وتجارب الآخرين مع الأموال الساخنة.