تستأثر الأزمات الملحة التى تمس مصالح الناس وحياتهم اليومية جانبا كبيرا من الحوار الوطنى الدائر حول الإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وحول التوظيف والأجور والمعاشات وأسعار الوقود وسلع الاستهلاك اليومى والخدمات. بينما تقف فى الخلفية المشاكل الكلية للاقتصاد التى تواجهها الحكومة من: عجز الموازنة، وتوفير فرص العمل، والخلل فى أسعار الصرف، وعجز المعروض من العملات الحرة، مرورا بالعنف، ومطالب الفئات. بينما اتسم الشكل الذى أديرت به المناقشات للآن من النخب المصرية ببعض السلبية والفرقة، وصرنا نفتقد إمكانية الوصول إلى توافق يليق بنخب مصر، خاصة أن الهدف الأسمى والأهم وهو الإصلاح السياسى والاجتماعى والاقتصادى تاه فى خضم المشاكل اليومية الفرعية. وعلت عليه أصوات (الفقهاء والخبراء) فى تفسير وإثبات النظريات وأضدادها، وفى مطالبات الذين اعتقدوا أن هذا (المولد) إذا انفض فلن ينالوا من حلواه شيئا. واللافت فى هذا كله هو أن ما تشهده التطورات الاقتصادية فى مصر ليست غريبة عما يتعلمه طلاب الاقتصاد فى مبادئ علوم المالية العامة، أو النقود والبنوك. وفى رأيى المتواضع أن أيا من مشاغلنا مهما كانت، فلابد أن أحد هذه العلوم يعالجها ببساطة، وباختيارات متعددة، لكن الاختيار فى النهاية يكون سياسيا. وكما يقولون فالاقتصاد أخطر من أن يترك للاقتصاديين ليقرروا خياراته. خصوصا أننا نسمع من الاقتصاديين الرأى وعكسه لحل نفس المشكلة، فمثلا تميل الغالبية إلى حل مشكلة عجز الموازنة بفرض المزيد من الضرائب. بينما عالجت ألمانيا عجز الموازنة سنة 1983 بخفض الضرائب لتشجيع المنتجين على زيادة الإنتاج والتوظيف. وخفضت الإنفاق على الخدمات وجعلت التأمين الصحى يتحمل أعباء أقل. وبجانب سياسات أخرى، انقلب العجز الألمانى إلى فائض كبير. ولعلاج الخلل فى أسعار الصرف وعرض الجنيه مقابل الدولار هناك من يتمسك بسياسة الجنيه (القوى) ويؤجل تقييمه وفقا للواقع (أى خفضه) لما بعد السيطرة على عجلة الإنتاج والصادرات وزيادتهما. بينما فضلت الحكومة المصرية أن تتبنى برنامجا جريئا للإصلاح يقبل بسعر واقعى للجنيه. بل قيل إن العيب الأهم فى هذا الحل هو أنه تأخر ثلاث سنوات. وفى هذا نستمع من الاقتصاديين الحل وعكسه لذات المشكلة، والكل متمسك أنه الأصح. وهو أمر ليس بمستغرب، ففى واحد من أهم كتب الاقتصاد حول (نظرية القيمة) ختمه مؤلفه “جون ستيوارت ميل الابن” بقوله (لم يبق لى - أو لغيرى - غامض ليجلوه فى نظرية القيمة)، أى أن علمه لم ولن يوجد من يتفوق عليه. بينما حدثت عشرات التطورات فى نظرية القيمة فيما بعد. ونقارن هذا بما قاله الكاتب العربى المتواضع “العماد بن الكمال” من أنه ما من مرة عاد لكتاب كتبه إلا ندم على ما قد فاته من عبر أو نقص فيه من حجج. وبين من يبالغ فى تقدير نفسه وبين من يتمسك بفضيلة التواضع، نتعلم المثل الإنجليزى الذى يقول “لا تستهن برأى أحد مهما صغر”، فحتى الساعة المتوقفة تكون أحيانا على حق، لأنها تشير للوقت المضبوط مرتين فى اليوم!! ماذا يريد الناس. الناس بحاجة لشاهد متوازن يشرح الأمور ويجيب عن استفساراتهم بصدق وبساطة تصل إلى العقل وللضمير دون تعقيدات، وكلما أمعن المتحدث فى الصدق والبساطة زاد قدر الاستجابة له والاقتناع به، كما أن الناس بحاجة لمن يتفاءل ويبعث فيهم الأمل عن حق. ولمن لا يدخل فى ألعاب تخليص حسابات الماضى، على حساب المستقبل، فالناس بحاجة إلى حل مشاكلهم وبناء تصورات للتقدم نحو مستقبل أفضل، أكثر من حاجتهم للبحث عن المخطئ للقصاص منه. فهو أمر يجب أن يشغل القائمين على العدالة والأمن، وليس جموع الناس الباحثين عن البناء وإدارة المستقبل. كما أن الناس بحاجة لمن يذكرهم بأن تاريخ بلدهم كان فى أغلبه تاريخا للمجد وللاعتزاز، حيث نجد حيثيات فخرنا بوضع مصر فى الحقائق التالية: مصر أكبر شعوب المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط سكانا. تمتلك مصر أكبر جيش وقوة ضاربة فى المنطقة. الاقتصاد المصرى أكبر اقتصاد فى منطقة شمال أفريقيا وثانى أو ثالث أكبر ناتج قومى فى المنطقة العربية، ويستند لأكبر قاعدة صناعية، ويتميز بأنه أحد أكثر اقتصادات المنطقة تنوعا. تساند الاقتصاد قاعدة إنتاجية متنوعة، تشارك فيها قطاعات الزراعة والصناعة، والخدمات تتقدمها السياحة وقناة السويس والبناء والإنتاج الثقافى والإعلامى وتكنولوجيا المعلومات. فضلا عن البترول والغاز وتحويلات 10 ملايين مصرى يعملون فى الخارج، ويثبتون أن نتاج التعليم المصرى ما زال قادرا على المنافسة، تبلغ القوة العاملة فى مصر نحو 30 مليون يد عاملة يستوعب منها القطاع الخدمى (51%) والقطاع الزراعى (23%) والقطاع الصناعى (17%)، ما جعل خبراء مصر هم عماد المعلمين والبنائين والأطباء والمهندسين فى منطقتهم. تتمتع مصر بموقع حاكم فى المنطقة العربية ومدخل إفريقيا، وتمتد منه سيناء فى أقصى الشرق من آسيا، وعلى بعد مرمى حجر من أوروبا وراء البحر المتوسط، كما توفر المياه مصدرا للحياة وللطاقة والمواصلات. وفر التاريخ ودور مصر الحيوى فى منطقتها بعدا لقوتها الشاملة، فمصر هى حاضنة الأديان ورسلها، ودرع الإسلام الذى سعى إليها. وهى درة الحضارة الإفريقية المسيحية والمسلمة السوداء والبيضاء على السواء مصر بمعايير وحسابات القوة الشاملة أقوى دولة فى منطقتها، وعلى رواد البناء والتقدم أن يعوا تلك الحقائق ويوظفوها لتحقيق صالح بلدهم ومصلحتهم. والشهادة الآن أن البرنامج الطموح للإصلاح الاقتصادى والمالى والنقدى بدأت بعض من نتائجه تظهر للعيان باستعادة الاحتياطى النقدى لمعدلات مرتفعة، وتزايد حجم الصادرات تدريجيا، وتراجع قيمة الواردات انعكاسا لخفض قيمة الجنيه وسياسات تنشيط الإنتاج المحلى، كما عادت تدفقات تحويلات المصريين من الخارج. وتتواصل الجهود لاستعادة السياحة لمعدلاتها وتحفيز الاستثمار المصرى والعربى والأجنبى، بما يعنى أننا على الطريق. والشهادة أيضا أنه لا توجد فى الأنظمة السياسية أو الاقتصادية نظم كاملة الأوصاف، أو رجال يحلقون بأجنحة الملائكة، وإنما التجارب الناجحة هى تلك التى تقدمها النخبة ويثق بها غالبية الناس بأن الوطن أفضل بكثير ما نصوره، ويستحق أكثر وأفضل بمراحل مما حققناه حتى الآن.