تركيا صاحبة ثاني أكبر عجز في الميزان الجاري بعد الولاياتالمتحدة --------------- منذ اندلاع ثورات الربيع العربي و صعود نجم تيارات الإسلام السياسي في عدد من الدول العربية, قام العديد من المنتمين إلي هذه التيارات بالترويج للتجربة التركية علي أنها النموذج الأمثل الذي يجب علي دول المنطقة أن تحذو حذوه سواء علي الصعيد السياسي أو الاقتصادي, و لم تكن مصر استثناء من هذه الدول, بل علي العكس كان تيار الإسلام السياسي في مصر من أكثر المتحمسين لتجربة حزب العدالة و التنمية و قائده أردوغان, و قد شهدت فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي طفرة في العلاقات المصرية- التركية ظهرت في تبادل العديد من الزيارات الرسمية بين المسئولين المصريين والأتراك لبحث سبل التعاون و الاستفادة من التجربة التركية, و قد قابل اردوغان هذا التوجه بكثير من الحفاوة و الترحيب لما ينطوي عليه من تعزيز للمكانة الإقليمية لتركيا و تكريس لفكرة التفوق التركي و هو ما يبرر رد الفعل الاردوغاني الغاضب عقب سقوط الإخوان المسلمين و نظامهم في مصر حيث إن سقوط تيار الإسلام السياسي في مصر قد فوت علي اردوغان فرصة ذهبية لتكوين تحالف تركي- مصري يكون لتركيا فيه الصدارة. التجربة التركية في الميزان و توحي طريقة تعاطي الحكومة التركية مع المظاهرات والاحتجاجات الأخيرة و منع مواقع التواصل الاجتماعي بالإضافة إلي انتشار قضايا الفساد ضد اردوغان و أسرته و بعض من أفراد حكومته إلي أن التعامل مع النظام السياسي التركي علي انه نموذج يجدر الاقتداء به هو من قبيل المبالغة و المغالطة, ففي أول اختبار حقيقي تتعرض له الحكومة التركية سقط القناع عن الوجه الحقيقي لها الذي لا يثمن بالضرورة مبادئ الديمقراطية ومعايير الشفافية و النزاهة و احترام حقوق الإنسان كما يدعي. أما عن الشق الاقتصادي من التجربة التركية, فلا أحد يستطيع إنكار الانجازات الاقتصادية المهمة التي استطاعت حكومة اردوغان تحقيقها و التي كانت ثمرة لسياسات الإصلاح الاقتصادي التي قامت تركيا بانتهاجها منذ نهاية العقد الأخير في القرن الماضي بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي الذي تدخل لإنقاذ تركيا من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي كانت تعصف بها بإغداق القروض عليها بأسعار فائدة منخفضة للغاية و خاصة في الفترة التي سبقت الغزو الامريكي للعراق حيث سعت الولاياتالمتحدة لمنح تركيا قرضا من صندوق النقد الدولي بلغ نحو3,16 مليار دولار في عام2002 لتحفيز تركيا لمساندة الولاياتالمتحدةالأمريكية في حربها ضد العراق, و قد تمكن الاقتصاد التركي في ظل حكومة اردوغان من تحقيق معدلات نمو وصلت في المتوسط إلي نحو5% في الفترة من(2002-2013), و هو ما انعكس بدوره علي نصيب الفرد من الدخل القومي و الذي ارتفع طبقا لبيانات صندوق النقد الدولي ليصل إلي نحو10950 دولار في عام.2013 كما نجحت تركيا في تقليص عجز الموازنة العامة بها حتي أصبح مستوي العجز بها يتماشي مع معايير الاتحاد الاوروبي( يشترط دستور الاتحاد الاوروبي مستويات لعجز الموازنة العامة لا تتجاوز3%) في الوقت الذي فشلت فيه العديد من دول الاتحاد الاوروبي في تحقيقه, فقد استطاعت تركيا أن تخفض عجز الموازنة العامة بها ليصل إلي5,1% في عام2013, بالمقارنة بنحو17% في عام2001, أما الانجاز الأهم و الأعظم فقد تمثل في النجاح في خفض معدلات التضخم و التي كانت قد بلغت معدلات غير مسبوقة في نهايات الألفية الماضية, فطبقا لبيانات صندوق النقد الدولي, تمكنت الحكومة التركية من خفض معدلات التضخم لتصل إلي5,7% في عام2013, مقارنة بنحو57% في الفترة(1995-2004). و في معرض الحديث عن التجربة الاقتصادية التركية غالبا ما يشير المتحمسون لها إلي الانجازات السابقة و لكنهم نادرا ما يشيرون إلي ما تواجهه هذه التجربة من تحديات و مشكلات, و فيما يلي نعرض أهم التحديات التي يواجهها الاقتصاد التركي: أ) البطالة: علي الرغم من ارتفاع معدلات النمو إلا أن ذلك لم ينعكس بشكل واضح علي معدلات البطالة في تركيا. بل علي العكس ارتفعت معدلات البطالة عقب البدء في تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي حيث بلغت معدلات البطالة في عام2013 نحو7,9%, و طبقا لتوقعات صندوق النقد الدولي ستبلغ هذه المعدلات نحو2,10% في عام2014, و نحو6,10% في عام2015 و ربما يرجع ذلك بالأساس إلي تدني معدلات الاستثمار بصورة لا تسمح بمعالجة فعالة لأزمة البطالة, فقد بلغ معدل تكوين رأس المال في عام2012 نحو20% فقط, و هو معدل متدن للغاية إذا ما قورن بمعدل تكوين رأس المال في مجموعة الدول المتوسطة الدخل التي تنتمي إليها تركيا و الذي وصل إلي32%, و يرتفع هذا المعدل بصورة كبيرة في دول شرق آسيا ليصل إلي44%. أيضا كان لاتباع سياسات الخصخصة في إطار تطبيق روشتة صندوق النقد الدولي دور كبير في رفع معدلات البطالة حيث تم الاستغناء عن أعداد كبيرة من العاملين في القطاع العام التركي الذي تمت خصخصته. ب)انخفاض معدلات الادخار و زيادة الاعتماد علي الخارج: يشكل انخفاض معدلات الادخار تحديا خطيرا لأي اقتصاد في العالم.حيث يعني انخفاض معدلات الادخار لدولة ما, أن هذه الدولة لن تجد المصادر المحلية الكافية لتمويل الاستثمارات المطلوبة لتحقيق معدلات النمو المستهدفة, و أن هذه الدولة ستضطر إلي الاعتماد علي التمويل الخارجي بصورة كبيرة و هو ما يجعلها عرضة للتقلبات الاقتصادية العالمية, و معدلات الادخار في تركيا تعتبر ضمن المعدلات الأدني عالميا. فقد بلغت معدلات الادخار في تركيا في عام2012 نحو14% فقط, مقارنة بنحو22% للمتوسط العالمي, و نحو30% للدول المتوسطة الدخل, و ترتفع هذه النسبة بصورة كبيرة لتبلغ نحو48% في دول شرق آسيا الصاعدة. و تعمق حالة عدم الاستقرار و الاضطرابات السياسية التي تشهدها المنطقة من خطورة هذا التحدي, حيث إنها تؤدي إلي سيادة جو من عدم التيقن حول مستقبل المنطقة و هو ما يؤدي بدوره إلي إحباط الاستثمارات الأجنبية المباشرة و التي تخشي من امتداد حالة التوتر السياسي إلي تركيا بما يعنيه ذلك من تهديد لاستثماراتهم و أرباحهم. و لذلك فإن تشجيع الادخار و اتخاذ السياسات اللازمة لتعزيزه أصبح ضرورة لا غني عنها لضمان استدامة و استقرار معدلات الاستثمار و النمو بتركيا. ج)ارتفاع حجم العجز في الميزان الجاري: بلغ حجم العجز في الميزان الجاري التركي مستويات غير مسبوقة, حيث أصبحت تركيا صاحبة ثاني أكبر عجز في الميزان الجاري( من حيث الحجم بالدولار) بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية, و هو ما كان من شأنه أيضا اللجوء إلي الاستدانة لتمويل هذا العجز المتفاقم مما كان سببا في ارتفاع حجم الديون الخارجية لتركيا لتصل إلي حوالي350 مليار دولار في مارس2013, و علي الرغم من صغر حجم هذه الديون كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلا انه تجدر بنا الإشارة إلي أن حجم هذه الديون لم يتجاوز7,116 مليار دولار في بداية العقد الماضي اي أن حجم الديون الخارجية قد تزايد بنسبة300% منذ البدء في تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي. وعلي ذلك فإنه علي الرغم من النجاحات التي استطاعت تركيا تحقيقها خلال العقد الماضي إلا أن ذلك كان له وجه آخر سلبي تمثل في ارتفاع العجز في الميزان الجاري و ارتفاع حجم الديون الخارجية. و هنا تجدر بنا الإشارة إلي انه علي الرغم من أن المؤيدين للنموذج التركي غالبا ما يشيرون إلي قيام تركيا بتسديد آخر أقساط قروض صندوق النقد الدولي علي انه مثال مهم علي نجاح التجربة التركية و لكنهم غالبا ما ينسون أو يتناسون انه في الوقت الذي استطاعت فيه تركيا تسديد ديونها لصندوق النقد الدولي, كانت ديونها الخارجية تتفاقم من الناحية الأخري. د)التفاوت الكبير في توزيع الدخل: في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد التركي هو الأسرع نموا في القارة الأوروبية في عام2011 محققا معدلات نمو وصلت إلي5,8%, كان اغني20% من السكان يحصلون علي46% من الدخل القومي, في حين أن أفقر20%, لا يحصلون إلا علي6% من الدخل القومي, ففي منظمة التنمية و التعاون الاقتصادي-التي تعد تركيا عضوا بارزا بها- كانت تركيا هي ثالث أعلي دول المنظمة(34 دولة) في عدم العدالة في توزيع الدخل. و يري الاقتصاديون أن ذلك يرجع في معظمه إلي النظام الضريبي المشوه و الذي يجني معظم إيراداته من الطبقات الفقيرة و المتوسطة, بالإضافة إلي أن النقابات و الروابط العمالية تخضع إلي قوانين تحد من صلاحياتها و هو ما يقلل بالتالي من القوة التفاوضية للعمال الأتراك و يحول دون ضمانهم للحصول علي حقوقهم في الحياة الكريمة. و يمثل التفاوت الكبير في توزيع الدخل و انتشار الفقر خطرا كبيرا خاصة في ظل إمكان امتداد عدوي الاحتجاجات و التظاهرات الشعبية و التي بدأت بوادرها بالفعل في احتجاجات ميدان' تقسيم', و إن لم تكن أسباب احتجاجات' تقسيم' اقتصادية بالأساس, إلا انه إذا استمرت الأوضاع بالتدهور و لم يستشعر الفقراء ثمار التنمية فسيكون من المحتمل أن تتطور هذه الاحتجاجات لتصبح المطالب الاقتصادية أساسا لها.