الأزمة الدبلوماسية التي اصابت اختيار الرئيس الجديد للمفوضية الاوروبية, بين بريطانيا معارضة له وألمانيا داعمة له, لم تنته عند تهديد سادس اكبر اقتصاد في العالم بالانسحاب من الاتحاد الاوروبي, ولم تخل كواليسها من عقد صفقات جانبية ووعود بالرشوة لحشد التأييد. لكنها سوف تحدد تداعياتها شكل الاتحاد الأوروبي ومساره الاقتصادي في المرحلة المقبلة. جان كلود جانكر,59 عاما, رئيس وزراء لوكسمبرج السابق ورئيس المجموعة الأوروبية لثماني سنوات جاء تعيينه بأغلبية ستة وعشرين صوتا مقابل معارضة صوتين هما بريطانيا والمجر, حيث قاد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون حملة شرسة- من خلال وسائل الاعلام- لمنع وصول جانكر الي الكرسي, لكن جهوده باءت بالفشل مع دعم المستشارة الالمانية انجيلا ميركل للمسئول اللوكسمبرجي, ما أدي الي وقوع ازمة في العلاقات البريطانية الالمانية. ورغم الجدل المثار حول شخصية الرجل والحملة ضده التي ركزت علي حياته الشخصية فإن طريقة تعيينه كانت مثار جدل اوسع نطاقا, وأكثر أهمية مع ما فرضته من تساؤلات حول السلطة الحقيقية داخل الاتحاد الأوروبي هل هي في البرلمان ام في المجلس الأوروبي( الدول والحكومات)؟ * ملابسات الاختيار تعكس تغير ميزان القوي الأوروبي: الفاينانشال تايمز رأت انها تحول تاريخي للسلطة داخل الاتحاد الاوروبي, والسبب في ذلك يرجع الي معاهدة لشبونة لعام2009 التي منحت صلاحية جديدة للبرلمان الأوروبي بالتصويت علي رئيس المفوضية, بما يشير الي تحول للسلطة من الحكومات المنتخبة الي البرلمان, إذ يتعين ان يصادق البرلمان الأوروبي الاسبوع المقبل علي قرار قمة الاتحاد الاوروبي بتعيين جانكر, التي عقدت يوم27 يونيو في بروكسل حتي يصبح نافذ المفعول. كان كاميرون قد اوضح في سياق هجومه علي جانكر, ان الأخير كان دائما في قلب المشروع الأوروبي لزيادة صلاحيات المفوضية الأوروبية والحد من صلاحيات الدول, وقال ان تخلي القادة الأوروبيين عن صلاحية اختيار رئيس المفوضية يضعف الحكومات والبرلمانات الوطنية ويمنح البرلمان الأوروبي سلطات اضافية, مشككا في جدوي الوحدة الأوروبية في ظل هذا المناخ. وقد اتفقت الفاينانشال تايمز مع رئيس الوزراء البريطاني في مخاوفه من انتزاع نفوذ القادة الاوروبيين مع تعيين رئيس المفوضية عبر البرلمان الأوروبي وحزب الأغلبية فيه. بالرغم من ان حساسية المنصب- مع توليه مهمة وضع قوانين تتعلق بكل شيء ابتداء من التجارة الي مكافحة الاحتكار, وتنفيذها- تستدعي اختياره بواسطة قادة الدول الأوروبية حفاظا علي مصالحها, وهي المرة الأولي التي يخسر فيها عضو كبير في الاتحاد في قضية رئيسية ويعجز عن التأثير فيها عبر حق الفيتو. وقالت الصحيفة البريطانية انه مع اتجاه منطقة اليورو نحو مزيد من التكامل, يحتاج الاتحاد الأوروبي الي مزيد من الشرعية الديمقراطية, ولكن كما يزعم كاميرون, فوز جانكر برئاسة المفوضية سيؤثر علي الشرعية الديمقراطية للاتحاد الأوروبي. كان الأوروبيون قد ادلوا بأصواتهم في انتخاب البرلمان الأوروبي في شهر مايو الماضي, وهي الانتخابات التي عكست نتائجها استياء الأوروبيين من سياسات التقشف وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الاستثمارات, وذلك بفوز الحزب الشعبي الأوروبي فيها. الرئيس الجديد للمفوضية الأوروبية سيكون امامه اجندة جديدة مهمة للاتحاد الأوروبي وبحسب مستندات توافرت للفاينانشال تايمز فإن المرحلة القادمة تحمل لغة مختلفة لحث مسئولي الاتحاد الأوروبي علي تحقيق التوازن بين الانضباط المالي وتحفيز النمو. وتأتي فرنساوايطاليا في مقدمة الدول المعنية بهذا الامر, حيث يطالب كل من الرئيس الفرنسي فرانسو اولاند ورئيس الوزراء الايطالي مايتو رينزو بمزيد من المرونة في ميثاق الاستقرار من اجل دعم الاستثمار والنمو لاسيما فيما يتعلق بالقواعد الصارمة للميزانية التي تم وضعها خلال اوج ازمة منطقة اليورو, ويطالبون بمزيد من الاستدانة لدفع النمو. وبحسب الفاينانشال تايمز, فإن المسودة الختامية للقمة الاوروبية الأخيرة- التي تم فيها تعيين جانكر- تؤكد عدم تغيير ما يعرف ب الاطار المالي الحالي الذي يمتد من عام2014 الي2020, وضرورة تنفيذ الاصلاحات الهيكلية التي دعا إليها الاتحاد الاوروبي والمتعلقة بتنفيذ برنامج اقتصادي ليبرالي. يذكر انه كان قد بدأ تنفيذ اول موازنة طويلة الاجل للاتحاد الأوروبي مع بداية العام الحالي وفقا للاطار المالي الذي اقره البرلمان الأوروبي في نوفمبر الماضي وتضمن خفض الانفاق بنسبة3.7% مقارنة بالموازنة السابقة مع التركيز علي تحفيز وخلق فرص عمل. والبعض يعتبر جانكر غير اصلاحي, بل معوقا لاصلاحات الاتحاد الاوروبي اللازمة لدعم اقتصاده والحفاظ علي تكامله وقد اوضح تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال علي سبيل المثال انه ليس من مؤيدي تشديد الاجراءات ضد الهجرة داخل الاتحاد الاوروبي, ويدعو الي حرية الانتقال فيه, واللافت هنا ان جانكر, من لوكسمبرج(532 الف نسمة) التي تتمتع بأعلي متتوسط لنصيب الفرد من اجمالي الناتج المحلي في الاتحاد الأوروبي وذلك بفضل العمالة الرخيصة القادمة من شرق وجنوب أوروبا, لكنه يؤيد الاصلاحالت الفعالة في دول الاتحاد الاقل ثراء. كما انه كان داعما لايرلندا في فرض ضريبة شركات لا تتجاوز12.5% مما يعزز من مكانتها كملاذ ضريبي آمن, الذي طالما اثار استياء المفوضية الأوروبية من قبل. جانكر وصفته مجلة الايكونومست بأنه كان الخيار الاقل سوءا واشارت في تقرير عنونته جانكر رئيس المفوضية الأوروبية الذي لا يرغب فيه أحد الي فوزه بالمنصب عبر تقديم وعود الي ايطالياوفرنسا بتخفيف سياسات التقشف الصارمة وفي مقابل وظائف وامتيازات لدول أخري, وكانت أبرز وعوده هي السعي للوصول الي صفقة عادلة في اعادة التفاوض بشأن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. كواليس القمة الأوروبية: المعركة علي منصب رئيس المفوضية الأوروبية كانت بين مرشح الحزب الشعبي الأوروبي جان كلود جانكر ومرشح الاشتراكيين الأوروبيين الالماني مارتن شولز. الأول عضو الحزب المسيحي الديمقراطي ويحسب علي التيار اليمني, الثاني كان رئيسا للبرلمان الأوروبي وهو من اليسار. وقد ساندت ميركل المرشح الأول اعتقادا منها بأن وجود ديمقراطي مثله علي رأس المفوضية سوف يدعم روشتة التقشف والاصلاحات لاسيما انه من اكبر المدافعين عن ميثاق الاستقرار للاتحاد الأوروبي وباعتباره رئيسا لمجموعة اليورو ساهم في وضع سياسات التقشف. وفي حين رفضت ميركل تكرارا ومرارا تعديل ميثاق الاستقرار من اجل دعم الاستثمار والنمو وهو ما يطالب به اليسار الاوروبي فإن فرانسوا أولاند وماتيو رينزي, قادة اليسار, طالبوا بالمزيد من الليونة في تطبيق الميثاق بما يتضمن تخفيف القواعد المالية الصارمة والسماح بمزيد من الاستندانة في مقابل دعم جانكر. وفي برلين عقدت مريكل- بحسب صحيفة الجارديان- صفقة مع زيجمار جابريال رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي وشريكها في الائتلاف الذي ترأسه من اجل دعم جانكر في مقابل عودة المرشح الثاني الاشتراكي الديمقراطي مارتن شولز الي رئاسة البرلمان الأوروبي. ومن ناحية أخري كانت هناك تهديدات بخروج سادس اكبر اقتصاد في العالم من الاتحاد الأوروبي حيث اعتبر رئيس الوزراء البريطاني اختيار جان كلود جانكر رئيسا للمفوضية الأوروبية خطأ جديا يصعب معه بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوربي قائلا انه يري صعوبة اصلاح الاتحاد الاوروبي قبل التصويت بشأن بقاء بريطانيا او انسحابها من الاتحاد في عام2017, حيث سيحدد البريطانيون مستقبل بلادهم. يذكر ان47% من البريطانيين قد ابدوا رغبتهم في آخر استطلاعات الرأي, في خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي في مقابل تأييد39% للبقاء داخله. وبحسب مصادر صحفية يطالب كاميرون بعد اختيار جانكر بمحفظة رئيسية في المفوضية, وبالفعل من جانبها اشارت ميركل الي امكانية حصول بريطانيا علي بعض الميزات التجارية وطالبت القادة الأوروبيين بتخفيف الضغوط عن كاميرون حتي لا يدفعوه خارج الاتحاد الأوروبي, فحسب محللين, تحتاج المستشارة الالمانية الي حليفها رئيس الوزراء البريطاني لمواجهة اليسار الاوروبي الداعي الي المزيد من المرونة في تطبيق قوانين الميزانية الأوروبية. كاميرون: أعتقد أنه شخص سيجد صعوبة في أن يكون صوت الإصلاح والتغيير في أوروبا. ميركل: يجب التعامل مع مخاوف بريطانيا إزاء المفوضية الجديدة بجدية وضمان تنفيذ الاصلاحات التي تطالب بها. تعليق الصورة: جانكر في كاريكاتير الصحافة البريطانية ديناصور معاد للمملكة المتحدة يميل الي شرب الكحول والتدخين. الصورة نقلا عن الإيكونومست