فيلم الكيت كات المأخوذ عن رواية مالك الحزين ذلك الطائر المنثر والقابع فى حقول يرويها النيل .. يعد ومن وجهة نظرى أعظم ما كتب فى الأدب المصرى وتم نقله بإتقان شديد على شاشة السينما ..
الثالوث إبراهيم أصلان .. محمود عبد العزيز وداوود عبد السيد .. ثلاث علامات مضيئة فى عمر الفن بمنتهى البساطة العبقرية المركبة ..
قابلت إبراهيم أصلان مرة واحدة فى إحدى ردهات الدور الخامس من مبنى الأهرام .. بطلعته الوسيمة وشاربه العظيم وعيونه الرقيقة النافذة .. يومها تكلمنا ونحن نسير بتؤدة نقطع الممر رواحا ومجيئا وتطرقنا إلى الكتابة الحلوة وروح النص وغيرها من الموضوعات التى كنت أطمع طوال عمرى فى فتحها مع صاحب فضل الله عثمان ودورية ليل وعصافير النيل ووعدنى بإخلاص وشغف بحوار زخم يشبهه .. وتهاتفنا مرتين ولكن لم ينتظر الموت ولو حتى قليل جدا لنلتقى ثانية ..
محمود عبد العزيز الذى لن أختصره فى أداء ملهم لدور الشيخ حسنى وإن كان جديرا بأن يتم التعبير عنه من خلاله حين وصل إلى عمق الوصل بينه وبين الناس فى أداء رهيف لشخصية المصرى المحبط كمثال لكل المهمشين الحالمين بحياة كالحياة منكرا عجزه وفاضحا لنزواته ونزوات الآخرين بقوة وسطوة الوجع بالفقر والتضحية بالغالى من بيت يسند به مستقبل ابنه لأجل النسيان بضمان حصة يومية من المخدرات .. نعم لأجل ضمان نسيان العوز نفسه وهو يذكرنى بالمخمور فى حكايات الأمير الصغير للكاتب أطوان دو سانت اكزيبورى الذى جلس على منضدة الكابية وأمامه كأس الشرب يعب منه لينس أنه مخمور ..
الأداء يناسب ما كونه خيال أصلان عن الشخصية وتعبير عبد السيد الذى ألف قصة الفيلم وأداها هو الممثل بجبروت الحيلة ودهاء التقمص ..
قابلته مرة واحدة بمعرض أبو أبنائى الفنان التشكيلى الكبير عبد العال بقاعة دروب بجاردن سيتى وهو زوج صديقتى الجميلة جدا والمقربة لقلبى بوسى شلبى التى أعرف كيف أحبته منذ أن كانت طفلة وهو صديق عائلتها الكبير .. محمود عبد العزيز اللطيف الذكى القريب حتى لو لم تعرفه يرحب بك وكانه يعرفك وصديقك منذ سنوات ..
الحق أن الموهبة الكبيرة تعافر وتتحدى وتنبت من قلب الحجر الصوان ووسط الرداءات الجافة تهل وتمطر كعطر الجناين الدائم . وها هو داوود عبد السيد الذى يفضل تأليف وكتابة ما يخرجه فأبدع بحنكة تلك الإحباطات المرسومة فى الحوارى والأزقة والبيوت المعدمة ..
وأعود للكيت كات وأداء شخصية الشيخ حسنى التى ترجم قدراته المحدودة بتعبيرات غير عادية عن رفضه العمى كنقيصة .. فيتخلى محمود عبد العزيز عن كل حصيلة مفرداته من أفلام سابقة متماهيا مع تركيبة الرفض والإنكار فى روح الضرير الهارب المتحجج بالظروف الكاذبة وهو يقنع عم مجاهد بائع الفول وصديق والده الذى بنى معه البيت الذى سيبيعه الشيخ حسنى لأجل مزاجه وهو يؤكد أنه سيبيعه فى سبيل أن يسافر ابنه يوسف .. عمق رهيب أداه بإتقان وهو يعود للمكان فالرجل لم يرد على حواره الذاتى فيدرك أن عم مجاهد مات وأن عليه أن يحمله للحارة معلنا وفاة آخر من شهد على بناء البيت فى مشهد عبقرى ...
ولعل أعظم أداءات محمود عبد العزيز وهو الأعمى الذى يخادع ويكذب على الأعمى ليقنعه انه مبصر فى تلك الديلمة التى نعيشها بحذافيرها فالعميان يقودون العميان ببساطة تشبه الحق وهو باطل للأسف .. ما كل هذا الزخم يا فنان .. هل أنت بالفعل قد تركتنا .. لا أعتقد ... لا يزال عم حسنى حيا على شاشة العرض وتلتمع بك من خلاله تجليات الوجد والألم والوجع لنثور على الاستكانات والأوجاع .. لنثور على كل شىء من خلال الفضح والهروب المبرر وغير المبرر .. الفضح اللئيم الذى أجاده محمود عبد العزيز فى أداء شخصية الشيخ حسنى الذى يفضحه فيقول بتستعمانى يا هرم ..
الشيخ حسنى الذى يخرج من الكيت كات هاربا كل يوم ويعود إليها لأنه ليس فى إمكانه قرار اللاعودة .. كل ذلك يجعل من أحلام المحبطين رداء وعباءة استطاع الثالوث المبهر تقديمها وجاءت أغنية درجن التى كتبها سيد حجاب مترجما لكل ما يمكن أن يصيبنا بالفزع لنثور ونحن نضحك من قلوبنا ونصرخ درجن درجن على جواد الرغبة فى خلاص نعرف أنه مستحيل .. فيصيغ كل منا أداء مختلفا عن حصان الخيال والمصبغة والمدبغة ..
ولكن بعد كل هذا السرد يبقى فى عمق الروح شىء واحد جاوز كل رغباتنا وهو أداء محمود عبد العزيز شخصيا ..