إيمان عمر الفاروق - ما بين الاتهامات المتواصلة باختراق القوانين ولسيادة الدولة المصرية.. وبين ملف التمويل الشائك تعيش منظمات المجتمع المدني التي تعمل في مصر حالة تخبط رهيبة.. وصلت لذروتها بتفتيش السلطات القضائية لمكاتب عدد من هذه المنظمات إنفاذا للقانون وسلطات التحقيق في قضية تلقي أموال من جهات أجنبية لممارسة دور سياسي فضلا عن العمل دون ترخيص.. وكالعادة حاولت هذه المنظمات فرض كلمتها من جديد بالاستقواء بالممولين.. أمريكا وكندا، وعدد من دول الاتحاد الأوروبي التي طلبت من السلطات المصرية وقف هذه المداهمات رغم التأكيدات المتكررة بأن هذه المنظمات وفي مقدمتها المعهد الجمهوري والمعهد الديمقراطي ومؤسسة فريدم هاوس الأمريكية فتحت فروعا لها بالمحافظات المصرية رغم رفض وزارة الخارجية المصرية منح تراخيص لهذه المنظمات منذ عام 2006.. ولأن العمل الأصلي لمنظمات المجتمع المدني له أصول وتاريخ راسخ في الساحة المصرية.. لكن يتجدد الاشتباك دائما حينما تقترب هذه المنظمات من دائرة العمل السياسي الذي له قواعد وترتيبات أخري.. وتتفاقم الأزمة حينما يدخل الطرف الثالث «الممول» علي الخط محاولا دائما فرض وجهة نظره علي المنظمات التي تتلقي التمويل، وعلي السلطات التي ترفض دوما اختراق سيادة الدولة.. والسؤال.. بالنظر إلي الدور الذي لعبته هذه المنظمات في ثورات الربيع العربي مروراً بوقوع بعضها في المحظور القانوني والسياسي.. هل ستعيد هذه المنظمات صياغة دورها واستعادة توازنها في المرحلة المقبلة؟! الدكتورة أماني قنديل - رئيس الشبكة العربية للمنظمات الأهلية - ترسم مسار الدور المستقبلي لمنظمات المجتمع المدني علي خريطة القوي الاجتماعية والسياسية كالتالي: قبل الحديث عن المستقبل لابد من الإجابة عن سؤال مهم مؤداه: هل لعبت تلك المنظمات دورا محركا أو باعثا علي الثورة؟ أم مصاحبا للحدث ذاته؟ أم رد فعل له؟ كيف يمكن تقويم دور هذه المنظمات التي كانت رؤية الغرب لها أنها ستكون الآلية الرئيسية للتحول الديمقراطي وإحداث التغيير السياسي؟ وبقدر ما بدا لنا خلال الأشهر القليلة الماضية فإنه يمكن القول إن المنظمات الحقوقية تمثلت ملامح أدوارها في القيام بدور حيوي علي مدي العقد الأول من الألفية الثالثة للكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان، التوعية بالحقوق والحريات، محاربة الفساد، والمطالبة بالديمقراطية أي تهيئة المناخ وذلك بمساندة الإعلام الخاص. مساندة الحركات الاحتجاجية والمطالب الجماهيرية أو الفئوية والتي كان مصدرها جهة أخري محركة كحركة 6 إبريل، اعتصامات العمال ومظاهراتهم في المحلة الكبري، وذلك في الفترة التي سبقت اندلاع الثورة المصرية ثم اشتعلت الثورة علي يد الشباب من خلال الشبكة الإلكترونية وقد بدا للغالبية العظمي من المتابعين والمراقبين أن الثورة ومطالبها ونزولها إلي ميدان التحرير قد تم خارج بنية المجتمع المدني بأطره التقليدية، التي عزف عنها الشباب.. ثم في مرحلة تالية وبعد نجاح الثورة، جاء دور المنظمات الحقوقية يسير في عدة اتجاهات أبرزها الدفاع القانوني عن حقوق الشهداء والمصابين تتبع قضايا فساد رموز النظام السابق وإثارتها قانونيا وأمام الرأي العام، تشكيل تحالفات وائتلافات لرد أموال المصريين المنهوبة بالخارج، تشكيل لجان تقصي الحقائق بشأن شهداء الثورة والمصابين، التوعية القانونية المنظمة للمواطنين للمشاركة في الاستفتاء علي تعديل الدستور المصري وأخيرا استمرار الكشف عن أي انتهاكات لحقوق المتظاهرين خلال المليونيات المتتالية، ولكن من المبالغة أن نذهب إلي أن المجتمع المدني هو الآلية الرئيسية للتحول الديمقراطي.. وسوف تلحق بخريطة المجتمع المدني في المنطقة العربية، خصوصا في الدول التي شهدت الثورات كمصر وتونس، ثم في دول أخري تشتد فيها الحركات السياسية والاجتماعية المطالبة بالتغيير أدواراً جديدة تتسم بالفاعلية، ترصدها لنا د. قنديل توجهات رئيسية في اتجاه التمكين والتنمية في مقابل التوجه السابق الخيري الذي يغلب علي الملامح العامة للمنظمات التطوعية، قدرات استجابية أكبر وأكثر مرونة تجاه المطالب المجتمعية، تأثير أكبر في عملية صياغة السياسات الاجتماعية وتجاه تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، دور تنويري وتشجيعي لتوعية القواعد الشعبية في المجتمعات المحلية، إزاء احترام حقوق الإنسان بالمفهوم الواسع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ومواجهة أكبر وأكثر عمقا لقضية البطالة، المواطنة ومكافحة الأمية، تبني منهجا وفلسفة تعتمد علي المشاركة من جانب كل الأطراف، ممارسة الديمقراطية داخل منظمات المجتمع المدني تتوافق مع عملية التحول الديمقراطي بعد الثورة، وأخيراً توجه نحو المواطن لتوعيته بواجباته، والتزاماته إزاء المجتمع في مقابل مطالب حقوقية له قد يقتصر عليها.. في الإطار ذاته يتوقع د. أيمن السيد عبدالوهاب - الخبير في مجال المجتمع المدني بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية - استمرار حالة الشد والجذب بين تلك المنظمات والدولة، وذلك استنادا إلي عدة معطيات أبرزها حالة الشد والجذب والتي تتحدد وفقا للملفات التي تتبناها تلك المنظمات، وعلاقة مصر بالدول التي تمولها حيث تتحمل منظمات المجتمع المدني تكلفة الشق السياسي، ولا أتصور حدوث تغيير في هذه المعادلة في المرحلة القادمة طالما ظلت تلك المنظمات تعتمد علي التمويل الخارجي بنسبة 100%، ولتفعيل دورها نحتاج إلي حزمة تغييرات اجتماعية، ثقافية وقانونية لمساعدتها في التحرك بشكل أكثر حرية وسلاسة بدون ضغوط داخلية لتنمية قدراتها ومواردها لاجتذاب شرائح من المجتمع توفر لها مصادر بديلة عن التمويل الخارجي من تبرعات أهلية وتطوعية، فطوال المرحلة السابقة لم نشهد تبرع رجل أعمال واحداً لمنظمة حقوقية، وغالبا ما يتسم العمل التطوعي للشباب بكونه محدودا ولفترة محدودة، وبدون ذلك سيظل مأزقها كبيرا في المرحلة القادمة رغم الزخم الذي سيحظي به الملف الحقوقي، كونه يتقاطع مع العديد من القضايا، لا سيما الاجتماعية والاقتصادية. لكن الانتخابات البرلمانية الأخيرة جاءت لتلقي بتجربتها ضوءاً كاشفا لأهم المعوقات التي تعترض عمل المنظمات الحقوقية، وهو ما ترصده د. إيمان حسن - أستاذ العلوم السياسية بجامعة 6 أكتوبر - مشيرة إلي اقتصار دور المنظمات الحقوقية علي متابعة وليس مراقبة سير العملية الانتخابية رصد المخالفات، كتابة التقارير المجمعة والاقتراض لدي الجهات المختصة، وقد تم تحجيم دور المنظمات الحقوقية الذي أري أن ثمة أسبابا سياسية تكمن وراءه، حيث تصنف المنظمات الحقوقية إلي منظمات صديقة للسلطة وأخري مناوئة لها، والأخيرة هي التي توضع تحت المجهر وإلا ما هو تفسير وجود ما لا يقل عن 130 منظمة حقوقية يحصل العديد منها علي تمويل خارجي يفوق حجم تلك التي يتم التحقيق معها وملاحقتها أمنيا وتهديدها بالإغلاق؟! ولإعادة مد جسور الثقة بين جميع الأطراف - وفق د. إيمان حسن - لابد من تحرير التشريعات من قيود التأسيس وحق الجهة الإدارية، وهي هنا وزارة التضامن الاجتماعي وليس القضاء في حل هذه المنظمات سواء كانت حقوقية أم غير حقوقية إلي جانب وقف الملاحقة والتعقب الأمني، واقتحام المقرات، والقبض علي النشطاء إلي ما شابه ذلك من قيود نابعة من النظام السياسي ذاته. وهكذا يتجلي لنا أن اختزال أزمة منظمات المجتمع المدني في الحلقة الجهنمية للتمويل الخارجي فقط ورهن تطور وتنمية قدراتها الأدائية به يعد تبسيطا وتسطيحا للأمور، خصوصا أنه عملية دائمة ومستمرة كجريان مياه النهر العكر لا يملك أحد سلطة وقف سريانه، وغاية ما نملكه التقاط الشوائب السامة التي طفت علي سطحه عبر لجنة تقص الحقائق المشكلة وفقا لقرار السيد وزير العدل رقم 7218 لسنة 2011. والأمر في النهاية تحكمه قواعد ثلاث: الالتزام بالقانون، الأخلاق وعدم الخضوع لمشروطية الجهات المانحة أيا كانت، كما روت لنا د. أماني قنديل عن واقعة جرت لها أخيرا، حيث تلقت عرضا رخيصا من إحدى المؤسسات التابعة لهيئة المعونة الأمريكية بصفتها الاستشارية لم تكن له علاقة من قريب أو بعيد بأصول المنهج العلمي فيما يخص مؤشرات قياس أداء المجتمع المدني، ولم يكن سوي إعداد تقارير استخباراتية عما يدور بمنظمات المجتمع المدني في إطار تفاعلات ثورة 25 يناير. وذلك مقابل مبلغ مالي ضخم، فما كان منها سوي أن رفضت العرض جملة وتفصيلا ولاتزال تحتفظ بنص الخطاب الذي أرسل إليها كوثيقة إدانة، وللأسف لقد عرف هذا العرض الرخيص طريقه إلي شخص آخر ولسوف يتكرر هذا السيناريو كثيرا تحت السطح ونحار نحن علي من نطلق الرصاص، وإن كانت د. أماني قنديل تري أننا جميعا شركاء، وتتحمل الحكومة المصرية قدرا كبيرا من المسئولية خصوصا أنه في ظل القانون الجديد 84 لسنة 2002 أصبح متاحا لأية منظمة توفيق أوضاعها واعتبارها منظمة مدنية لا تهدف للربح!