عبد الرحيم رجب عزيزي القارئ من منا لا يعلم مكانة الحج التي غُرِِسَت في قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ فما من مسلمٍ على وجه الأرض وإلا ونفسه تهفوا وتشتاق لزيارة بيت الله الحرام مهما تباعدت به الديار، فتظل تلك الرحلة تداعب قلوب المسلمين وأرواحهم في كل مكانٍ وتملأ قلوبهم بالحنين والشوق إلى بيته حتى يأذن الله بتحقيق تلك الأمنية، فذلك الحنين والشوق الذي يدفع بالمسلمين إلى زيارة بيت الله الحرام إنما هو استجابة لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-، عندما قال: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ"، فالحجُّ أحد أركان الإسلام الْخَمسة، وقد أوجبَه الله على المستطيع من عباده، فقال: "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً"، فالحج يجمع معاني العبادات كلها، فمن حجَّ فكأنّما صام وصلى واعتكف وزكّى ورابط في سبيل الله وغزا. ومن بين واجبات الحج ومناسكه "رمي الجمار" التي بيَّنها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع، والجمار؛ هي الحجارة الصغيرة، وهي الأماكن التي يرمي الحجاج فيها تلك الحجارة، فالجمار تطلق على شيئين: الحجارة، والأماكن التي تلقى فيها هذه الحجارة، وهي ثلاث جمرات؛ جمرة العقبة الكبرى، والجمرة الوسطي، والجمرة الصغرى، ويبدأ الرمي من يوم النحر وخلال أيام التشريق، ويكون ذلك في مني من جهة مكة وبين كل جمرة والأخرى حوالي 120 مائة وعشرون مترًا، والسُنّة أن يبدأ بالجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى "العقبة"، يرمي كل واحدة بسبع حصوات قائلًا مع كل رميةٍ: "بسم الله، والله أكبر رغمًا للشيطان وحزبه وإرضاءً للرحمن"، ويدعو بعد كل جمرة ما عدا جمرة العقبة الكبرى، يرفع يديه مستقبلًا الكعبة ويصلي على النبي ويدعو بحاجته، ويقول: "اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وعملًا صالحًا مقبولًا، وتجارةً لن تبور". اتِّباع الرسول وإهانة الشيطان.. ذكر جمع من أهل العلم أن الحكمة من رمي الجمرات؛ هي إهانة الشيطان وإذلاله وإرغامه وإظهار مخالفته، واتباع هدي النبي -صلوات الله عليه وسلامه-، القائل: "خذوا عني مناسككم"، فهو أمر صريح للأمة الإسلامية بأن يتعلموا منه، وأن يعملوا بما يشاهدوا من عمله -عليه الصلاة والسلام- وما يسمعون من قوله، فهذا هو الدليل على رمي الجمار، وفي هذه الحالةيُعبِّر الحاج عن عداوته للشيطان تعبيرًا رمزيًا برمي الجمار؛ ويكون ذلك عهدًا وموثقًا بين الحاج وبين الله لعداوة الشيطان طوال حياته، وعن ذلك يقول الإمام الغزَّالي: "اعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان وتقصم ظهره، ولا يحصل إرغام أنفه، إلا بامتثالك أمر الله تعالى". وجاء في السيرة أن خليل الله إبراهيم عليه السلام جاءه إبليس لعنة الله عليه ليصده عن ذبح إسماعيل -عليه السلام-؛ فرماه بسبع حصوات في هذه الأماكن التي يقوم الحجاج فيها برمي الجمرات، فرمي الجمرات هو اقتداء بنبي الله إبراهيم عليه السلام، وعن ذلك يقول ابن عباس بعد أن ذكر القصة: "الشيطان ترجمون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون"، وهناك روايات تقول بأنّ الرمي في بدايته حدث من نبي الله إسماعيل، عندما تصدى الشيطان له ليمنعه ويصرفه عن الامتثال لأمر ربه بتقديم نفسه قربانًا لله تعالى، وكان ذلك في ثلاثة مواضع، وفي كل واحد منها كان إسماعيل يرميه بسبع حصوات، وهناك رواية ثالثة بأن الحادث قد وقع مع الثلاثة نبي الله إبراهيم، وولده إسماعيل، وزوجته أم إسماعيل هاجر، من أجل أن يصد الوالد عن تقديم ولده، والولد عن تقديم نفسه، والأم عن الرضا وموافقة إبراهيم على ذبح ولدهما لتقف حائلًا بين الوالد وما أقدم عليه من ذبح الولد، فبرمي الجمرات نقيم ذكر الله ونعلن عداوتنا للشيطان وعن ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله".