كرم سعيد نجاح أردوغان في تحويل النظام السياسي إلى الرئاسي سيمكنه من ترويض المؤسسة العسكرية
تصاعد المواجهة مع الأكراد جنوب البلاد قد تدفعه للتهدئة
لم تكن الجملة التى نطق بها أردوغان عندما قال "إن الانقلاب هبة من السماء لتطهير الجيش" لتمر مرور الكرام، خصوصا وأن الرئيس التركي أعقبها بالكثير من الإجراءات للتخلص من خصومه فى المؤسسة العسكرية ، والتى يخشي الكثير من المراقبين أن تتجاوز ذلك إلى مدى يشتعل فيه الوضع بين الرئيس والعسكر. لقد حظيت المؤسسة العسكرية في تركيا بوضع استثنائي وخاص منذ تأسيس الدولة التركية في العام 1923على يد الجنرال أتاتورك الذي برز على مسرح الأحداث مع تداعى الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسمى رجل أوروبا المريض. وتطور دور الجيش في الحياة السياسية، وسيطر على كل مقاليد الدولة التركية، وأصبح حامى العلمانية، وبرز ذلك في الإطاحة بعدد واسع من الحكومات المنتخبة في الأعوام 1960 و 1971 و 1980 . وأخيراً الإطاحة بحزب الرفاة ذى التوجه الإسلامي، وزعيمه نجم الدين أربكا فى العام 1997. غير أن طبيعة العلاقات المدنية العسكرية شهدت تغيراً جذرياً مع قدوم العدالة والتنمية إلى سدة السلطة في العام 2002، وفوزه في العام 2007 و 2011 بأغلبية مريحة، وبقائه في الصدارة برغم تراجع شعبيته في العام 2015. وحافظ الحزب على جاذبيته وجزء معتبر من قاعدته الشعبية مع تضاعف حجم الاقتصاد وتصاعد معدل النمو وتراجع مؤشر البطالة. والأرجح أنه منذ توليه السلطة عام 2002 ظلت العلاقة بين أردوغان والجيش متوترة بسبب نظرة الجيش للحزب علي أنه حزب إسلامي يهدد علمانية تركيا ويهدد الأتاتوركية التي يتعهد الجيش بحمايتها، وزاد من توترها سعي أردوغان لإنهاء سيطرة الجيش على الحكم عبر سلسلة من التعديلات الدستورية. الإنجاز الاقتصادي للعدالة والتنمية وعدم وجود بديل سياسي مقنع أو أفضل مع إصرار الحزبين الرئيسيين – الشعب الجمهورية والحركة القومية - على تغليب النهج الأيديولوجي على حساب البنية التحتية التي ترتبط بالاقتصاد ومصالح الناس والسياسة الخارجية، ساهم أيضا في تراجع الصورة الذهنية للمؤسسة العسكرية أو على الأقل جعلها في مرتبة لاحقة.
أردوغان..وأقلمة أظافر العسكر استطاع أردوغان أقلمة أظافر الجيش، وأنهى تدخله في السياسة بعد أن حرك في العام2007 قضية "أرجينيكون" في يونيو 2007، والتي تم بموجبها إحالة مئات من القيادات العسكرية إلى القضاء بتهمة الانتماء لجماعة يمينية هدفت إلى قلب نظام الحكم، وانتهت بوضع 40% من أدميرالات الجيش التركي خلف القضبان في 2008قبل تبرئتهم لاحقا. كما حكم على أكثر من 300 ضابط بالسجن في سبتمبر 2012 بتهمة التآمر للإطاحة بأردوغان في عام 2003، وفي يونيو 2014 صدر حكم قضائي بالحبس مدى الحياة ضد الجنرال كنعان أفرين البالغ من العمر 97 والمسئول عن انقلاب 1980. ما سبق لم تكن الإجراءات الوحيد في محاصرة الجيش التركي، ففي العام 2013 وافق البرلمان التركي على تغيير المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة التركية، والتي كانت تضفى شرعية على كل الانقلابات التي قام بها الجيش ضد الحكومات المنتخبة. وكانت المادة ال35 من قانون المؤسسة العسكرية الذي صدر في أعقاب انقلاب 1960 تنص على "أن وظيفة القوات المسلحة التركية هي حماية الوطن التركي ومبادئ الجمهورية التركية كما هي محددة في الدستور". لكن الصيغة الجديدة التي جرى التصويت عليها بأغلبية قبل نحو ثلاث سنوات، فقد أصبحت "مهمة القوات المسلحة تتمثّل في الدفاع عن الوطن والجمهورية التركية تجاه التهديدات والأخطار الخارجية، والسعي إلى الحفاظ على القوة العسكرية وتعزيزها، بحيث تشكل قوة رادعة للأعداء، والقيام بالمهمات الخارجية التي تسند إليها من قبل البرلمان التركي، والمساعدة على تأمين السلام العالمي". ودخل المناخ مرحلة الشحن بين الجيش التركي والسلطة المدنية عشية قرار الحكومة بفصل قوات الدرك عن الجيش ونقل تبعيتها إلى وزارة الداخلية، وهي القوات المنوط بها مراقبة الحدود. وأنشئت قوات الدرك في عام 1846، وتضم نحو 276 ألف عنصر، ولديها نحو 1500 عربة وتجهيزات مصفحة وحوالي ستين طائرة هيلكوبتر. ومع تصاعد الاحتقان الكردي في الداخل عمل أردوغان على تهدئة العلاقة مع الجيش، وتجلى ذلك فى تمرير البرلمان التركي نهاية يونيو الماضي مشروع قانون يمنح جنود الجيش وضباطه حصانة قضائية، وبأثر رجعي عن أى مخالفة يرتكبونها أثناء القتال على الأرض. كما يعطى الجيش صلاحيات واسعة تصل إلى درجة فرض حظر تجول في مناطق سيدخلها، وهو ما أعاد الصورة الذهنية للجيش التركي في عقدي الثمانينيات والتسعينيات عندما كان الجيش يملك ويحكم. كما تمت إعادة اعتبار ضباط الجيش التركي المتهمين بتدبير انقلاب عسكري في العام 2003 والمعروف بقضية "أرجينيكون"، وتبرئتهم؛ بعد الاستجابة لطلب رئيس الأركان الذي يتمتع بعلاقة طيبة مع أردوغان بجانب سمعة طيبة داخل الجيش التركي. وكان أكار أول وأعلى رتبة عسكرية قامت بزيارة الضباط في سجن ماماك العسكري في العاصمة أنقرة، خلال عيد الفطر في أكتوبر 2013، أي بعد أيام من قبول المحكمة الدستورية العليا الطعون التي رفعها الضباط في الأحكام الموجهة ضدهم. إضافة إلى ما سبق فقد أبدت المؤسسة العسكرية ندية في علاقتها بمؤسسة الرئاسة بعد رفض طلب رئاسي بإنهاء خدمة عدد من ضباط السلاح الجوى، وخصوصا طيارى طائرات f16، في ظل اتهام أردوغان لهم بالانتماء لجماعة فتح الله غولن ومسئولية أحدهم عن عملية إسقاط الطائرة الروسية لتوتير العلاقات مع موسكو. صحيح أن أردوغان نجح في أقلمة أظافر المؤسسة العسكرية طوال السنوات التي خلت، خاصة بعد تعديل المادة 35 من قانون الجيش التركي، التي تقصر مهامه على حماية حدود البلاد وتعزيز قدراته العسكرية دون الانشغال بقضايا السياسة أو ما يتعلق بحماية مبادئ الجمهورية العلمانية . فإن ثمة احتقان بين أوساط بعض العسكريين بفعل نوايا أردوغان باتجاه تحويل مجري النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، واتجاهه إلى هيكلة الجيش فى سبتمبر المقبل بعزل قيادات وتعيين أخري. والأرجح أن من قاموا بالانقلاب في 16 يوليو الجاري، هي وحدات داخل الجيش التركي نسقت فيما بينها دون الرجوع إلى القيادة العليا، وكان بارزاً، اعتقال الجنرال خلوصى أكار رئيس الأركان بعد رفضه التوقيع على بيان الجيش وتلاوته فى وسائل الإعلام ثم التوجه إلى محاصرة مقر المخابرات العامة التي يترأسها هاكان فدان رجل تركيا القوي وكاتم أسرار أردوغان. وعلى الرغم من أن الانقلاب كشف عن انقسام لا تخطئه عين داخل المؤسسة العسكرية بعد رفض قطاع معتبر من قادة الجيش الانقلاب والتصدى له، وفي الصدارة منهم قائد الجيش الأول الذي أعلن بنفسه فشل الانقلاب، فإن هذا الانقلاب فتح الباب واسعاً حول سيناريوهات المستقبل بين الجيش ونظام الحكم في تركيا، وأصبحت هذه التساؤلات أكثر إلحاحاً في ظل الاعتقالات في صفوف العسكريين، والتي وصلت إلى ما يقرب من 6 آلاف عسكري ناهيك عن تعليق عمل 2745 قاضيا وتوقيف عدد كبير من عناصر الشرطة والموظفيين العموميين بتهمة مساندة الانقلاب العسكري. سيناريوهات العلاقة أعادت أزمة غياب الثقة بين الرئيس أردوغان والمؤسسة العسكرية إلى الواجهة عشية الانقلاب، فما بين تصريحات رئاسية تشير إلى تطهير الجيش نفسه بنفسه، يبدوأن هناك سلوكا مغايرا بعد اعتقال قطاع واسع من قادة الجيش. والواقع أن حادث الانقلاب كشف عن حالة المراوحة بين الحكم والجيش التركي، وفي وقت سابق أثار المقال المعنون تحت "هل سيحدث انقلاب على أردوغان في تركيا؟"، والمنشور في مجلة "نيوزويك" لمايكل روين مسئول سابق في وزارة الدفاع الأمريكية قلقا واسعا داخل تركيا. وظهر المقال عشية مشاركة أردوغان في قمة الأمن النووي مطلع أبريل الجاري، وبرغم إصدار الجيش بيان اعتبر فيه الحديث عن انقلاب غير صحيح، ونفى وجود " حركة تمرد داخل الجيش أو أي احتمال لخروج مجموعة عن آلية السمع والطاعة التي تحكم جميع أفراده، وأنه لا يمكن الحديث عن خطوة غير شرعية تأتى من خارج هيكلة القيادة، أو تعرضها لخطر".
سيناريوهات المستقبل في هذا السياق نجد أننا أمام سيناريوهات عدة حول مستقبل العلاقة بين الجيش التركي والنظام المدني أولها :المواجهة المباشرة، لاسيما أن المؤسسة العسكرية قد تهتز صورتها جراء السياسات التعسفية تجاه الجيش عشية الانقلاب. ويرتبط السيناريو الثاني بالتهدئة مع الجيش التركي، خصوصا في ظل تصاعد المواجهة ضد الأكراد جنوب البلاد. أما السيناريو الثالث فهو مراوحة المؤسسة العسكرية واشتباكها على مضض مع العدالة والتنمية بما يحافظ على معدلات معقولة في المجال الاقتصادي بفعل المعونات المقررة من الاتحاد الأوروبي لاستيعاب اللاجئين السوريين البالغ عددهم نحو 2,7 مليون لاجئ في تركيا إضافة إلى استثمارات رجال الأعمال السوريين الذين نقلوا أنشطتهم إلى تركيا مع تصاعد الحرب السورية، وتقدر بنحو 10 مليارات جنيه. السيناريو الرابع وهو إمعان أردوغان إذا ما نجح في تحويل مجرى النظام السياسي إلى رئاسي في تحويل المؤسسة العسكرية إلى منظمة روتينية تتلقى الأوامر والتعليمات، حيث نجح أردوغان بشكل أو بآخر في السيطرة على مجلس الأمن القومي الذي تم إنشاؤه في مطلع ستينيات القرن الماضي.