عرفه عبده على أروع ما فى السيرة الهلالية تصويرها البارع لمعانى البطولة والشجاعة، وحكايات أبطالها بشخصياتهم المتميزة بكل جوانبها الإنسانية، رجالا ونساء، وقد سبق أن عرضنا لحكايات الأمير رزق بن نايل والشريفة خضرة وأبو زيد الهلالى.. ومن أبطالها أيضا شخصيات تاريخية "حقيقية" أضفى عليهم الرواة من الصفات وألواناً من الأسطورة – حدثنا ابن خلدون عن بعضهم – ومنهم أبطال من صنع خيال الرواة وشعراء الربابة وقد أضافوا إليهم ما يروج فى الحكى عنهم عند عامة الناس! أصلى على من قال: يارب أمتى طه.. الذى شرف بنى عدنان قد خاب عبد لا يصلى على النبى
الحسن بن سرحان: لقب بملك العرب والسلطان وأمير القبائل وشهرته الكبيرة تعود إلى أبرز صفاته: الجود والكرم، بأكثر مما تعود إلى شجاعته فى الغزوات: أنا سرحان بن دريد أنا مليك الهلايل أسقى العدا المر و دريد قل له جالك السبع سرحان ووراه رزق بن نايل أسوده و ذكرهم بإن مين يجهل رجال الهلايل! وشخصيته فى السيرة الهلالية تحيطها هالة من المهابة والجلال بما يتناسب مع "الأرستقراطية الملكية"!.. يتمتع بحميد الخصال، يعفو عند المقدرة ويحمى من يلوذ به، ولا يستبد برأيه فالأمر شورى بين وجوه القبيلة، وليس فى شخصيته ما يخرجها عن المألوف سوى الإسراف فى الجود والتبذير فى منح العطايا والهبات حتى لمن لا يستحق! وكثيرة ما كان رواة السيرة الهلالية يشيرون إلى ترحيبه الخاص بالشعراء ومبالغته فى إكرامهم ومضاعفة هداياه لهم، وهى إشارة "خبيثة" من شعراء "ربابة أبو زيد" يستحثون بها المستمعين على بذل المزيد من "المشاريب" و "الفضية"!!
دياب بن غانم: يحتل مكانة بارزة فى السيرة الهلالية، ينتسب إلى قبيلة "زغبة" وتبدو صفاته أقرب إلى الواقع، فهو فارس مغوار ترتقى مكانته عقب منازلته للزناتى خليفة وتغلبه عليه بعد أن أعجز كل الشجعان والفرسان حتى أبا زيد نفسه والحسن بن سرحان: أنا الفتى الزغبى دياب بن غانم لى عزم أقوى من صفا بولاد .... دياب أمير وابن أمير وأمير ولا مثله فى شرقها والمغارب .... يقول الفتى دياب بن غانم والنار جوه الضلوع شجونها .... وحنا عصافير ودياب سدرة نلوذ به عن مرهفات الحدايد وإذا كانت السيرة قد بالغت بشأن نشأة أبى زيد، فإنها اقتصدت فى الحديث عن نشأة دياب، فقط ذكرت أن والده كان فارسا، وكان مزواجا، غير أنه لم ينجب من زوجاته، ثم تزوج بأم دياب وكانت مثالا للقبح والدمامة ولها ناب بارز حتى قضت حياتها منتقبة لتستر قبحها! وعندما أراد الله تعالى أنجب منها دياب، فصبر على معاشرتها أربعين عاما اعتزازا بالفارس الذى حفظ اسمه فى قومه وارتفع بذكره فى القبائل، وكلما خالف دياب والده فى أمر، كشف النقاب عن وجه والدته قائلا: لقد صبرت على الرضا بهذا أربعين عاما من أجلك، فيذعن دياب لأمره! وتصور السيرة دياب بن غانم بطلا شديد المراس، يتميز بالصبر على النزال، شديد الاعتداد بنفسه، مغرور بشجاعته إلى حد التهور!.. وتحكى السيرة أن دياب وأبو زيد وعدداً من الفرسان التقوا ألفين فارس من أعدائهم فأفنوهم عن آخرهم، والحديث لدياب: حنا بلينا بالحلا بألفين فارس، وحنا تلاتين ولا زاد زايد، أبو زيد بأيمنهم وأنا من يسارهم!.. تطاول على السلطان حسن بن سرحان، وحتى أبوزيد نفسه، خصوصاً بعد أن صرع الزناتى خليفة حاكم تونس وفارسها: وجانا الزناتى فوق أعوج سابق يسبق هبوب الريح لما يقوم وقد عجزنا عن قتاله جميعنا بعتنا ورا الزغبى ببعض كروم قتله أبو وطفا دياب بن غانم وترك دمه من التراب يعوم! تطلع بن غانم إلى الملك وزعامة كل العرب، وكان لابد أن تقع الجفوة بينه وبين صاحبيه: حسن وأبوزيد، فعملا أن يأخذاه بالشدة، ثم القيد الثقيل والسجن سبع سنوات!.. إلى أن أطلقه الأمير حسن بعد وساطة كثير من أمراء القبائل، مما أحقد ديابا، فاغتال الأمير حسن على فراشه.. ثم اغتال أبوزيد غدرا! وتجدر الإشارة، إلى أن الرواية التاريخية تذكر أن قتل الأمير حسن هم أولاد شبانة بن الأحيمر فى ثأر أبيهم!
الجازية: هى أخت السلطان حسن بن سرحان، كانت آية فى الجمال فتصفها السيرة بأنها كانت: "جميلة المنظر لطيفة المحضر، بديعة الجمال، عديمة المثال، فى الحسن والكمال، والقد والاعتدال وفصاحة المقال، لا يوجد مثلها بين الخلق، لا فى الغرب ولا فى الشرق، كأنها الشمس الضاحية، طلعتها تنعش الصدور والأرواح"! كانت تتمتع بمكانة رفيعة من قومها، تزوجها الهاشمى الشريف شكر بن أبى الفتوح صاحب الحجاز وأنجبت منه "محمدا ً" وقد ارتبطا بقصة حب تزرى بقصة قيس وليلى العامرية!.. وحدثت فتنة بين الهلاليين وزوجها الشريف، فاحتالوا عليه بحجة أخذها معهم فى رحلة للصيد والقنص!.. وقد أجمعوا أمرهم على الرحيل من نجد إلى تونس والجزائر – تغريبة بنى هلال – ورويت الكثير من الأشعار عن حال الجازية وزوجها الشريف تناقلتها الأجيال، وقد أشار ابن خلدون إلى هذه القصة فى معرض حديثه عن دولة الأشراف فى مكةالمكرمة.. وكم عانى الزوجان الحبيبان من فارق بينهما! وتثبت السيرة للجازية شخصيتها القوية وكلمتها النافذة بين قومها، فما كانوا يفصلون فى أمر دون الرجوع إليها.. فكانت تتمتع ب"ربع المشورة" فى شئون القبيلة وما يدبرون من أمور سياسية، وفى ميادين الحرب، فكانت فى كل غزوة على رأس سرب من الجميلات يشجعن الفرسان بأناشيدهن، ويحركن فى الصناديد النخوة والشجاعة فى الزود عن الحريم وحماية الأرض والعرض.. وهى التى حملت دياب بن غانم على منازلة الزناتى والأخذ بالثأر منه.. وهى التى ساعدت أبوزيد بالحيلة على اقتحام سور القيروان بعد حصار طويل ثم الاستيلاء عليها: إذ خرج سرب من العذارى الحسان وعلى رأسهن الجازية فى موكب من الفتنة!.. طلبن من منصور القائم على الباب أن يسمح لهن بالدخول للتفرج على المدينة والطواف بأسواقها و غنين له أغنية مطلعها: افتح يا منصور افتح باب السور افتح للعذارى والسمر الخضارى ففتن الرجل بجمالهن وخلب بإنشادهن ففتح لهن، وتمكن "عبدهن" أبوزيد من الاتصال بأنصار الهلاليين وأن يتبين استحكامات العدو.. ثم عادوا جميعا بمعلومات مكنت الهلاليين – فيما بعد – من اقتحام السور وبسط نفوذهم على القيروان. وعندما طال أمد الحروب بين الهلاليين والزناتى حاكم تونس وفارسها، اقترح أبو زيد مصالحة الزناتى: "ومن أبى عن الصلح يسأل الجازية"!.. استشاطت الجازية غضبا وقالت: يا بنى العربان ذليتم عن حرب الزناتى! وحالا دعت "النسوان" وقالت "دونكن والخيل" وطلبت من أبى زيد النزول عن فرسته "الخضرا" حتى تركبها وتقاتل الزناتى: أنا أورد خليفة أقص الموارد أنا بنت سرحان الأمير بلا خفا أخى حسن سلطان ع القوم سايد يا عذارى شدوا الخيل واركبوا على سوابق أصيلات فرايد فلما أصبح الصباح دقت طبول الحرب التى طال أمدها وأسهبت السيرة فى سرد تفاصيل وقائعها!
سعدى بنت الزناتى يروى فى نسب قبائل "السعادى" التى تنتشر فى برقة وفى بعض الأماكن فى مصر: أنهم من سلالة امرأة تسمى "سعدى بن زناتة" وهى بنت عظيم من عظائمهم، كان لها دور فى حرب المعز بن باديس، تزوج بها زعيم بنى سليم، وكان رجلا عظيما لقب ب"الذئب" و "أبو الليل"! وينقسم أولاد سعدى إلى قبائل: البراغيث، العقاقرة، السلالمة أو بنى سلام، ويتفرع عنها قبائل: الهنادى والجبالية، وقد وفدوا على مصر من طرابلس فى أواخر القرن الثانى عشر من الهجرة. فهناك إذن أصل تاريخى نشأت عليه قصة "سعدى" وقد استغل الرواة هذا الأصل فأضافوا إليه وانتقلوا بزمانه ومكانه إلى ما شاءوا فى ترتيب أحداث الحكاية والتشويق بغرائبها وطرائفها، وكان خيال الرواة رائعا ً خصبا فى رسم الصورة المثالية لكل امرأة تواجه الحياة بغرائزها وتفرض هواها على الأحداث والمواقف، مهما كان شأن الناس الذين يعترضون سبيلها! وسعدى ابنة الزناتى خليفة انفردت بموقف مهم وصعب فى السيرة، والتى رسمت لها صورة أخاذة بما أشاعته حولها من سمات وصفات وحكايات.. ومما أفاضه عليها الرواة من العواطف المتأججة والآمال المكبوتة!.. غير أن الرواية التاريخية لا تعرض لها سوى أن والدها كان يلقب بأبى سعدى، وكان من الجائز عند العرب أن يكنى الرجل بابنته أو والدته، كما كان جائزا أيضا عند البربر. وحكاية سعدى هى فى الواقع حكاية كل امرأة ومثيلاتها كثيرات فى التاريخ.. ويمكننا أن نقابل بين صورة سعدى وصورة الجازية فى الامتياز بالجمال وسمو المكانة.. لكن بعد ذلك ينجلى كل الإختلاف: فالجازية – كما مر بنا - كانت تتميز برجاحة العقل وتشارك فى المشورة بشأن الحرب والسياسة والتدبير وتحمل من ذلك عبئا ثقيلا قد ينوء به أكثر الرجال!.. كما كانت غيورة على قومها ونصرتهم، حتى إنها ضحت بحبها لزوجها فى سبيل معونتهم والرحيل معهم إلى "إفريقيا" وعلى العكس من كل ذلك كانت سعدى بنت الزناتى! كانت سعدى وحيدة أبيها – سيد قبيلة زناته – فكانت فى مقام رفيع من الجاه والمكانة، لم يجرؤ أحد على طلب يدها، ولم تتنزل هى لقبول أحد أدنى من مكانتها.. فلما وقع أبوزيد ورفاقه الثلاثة: يحيى ومرعى ويونس فى الأسر وسجنوا فى سجن أبيها فى انتظار شنقهم بتهمة التجسس.. أطلب سعدى للتفرج على الأسرى، فوقع نظرها على مرعى أخذت بجماله فشغفت به حبا!.. وأسرعت إلى أبيها بالشفاعة فى هؤلاء الغرباء الأسرى، والذين قد يكونون أبرياء مما نسب إليهم، واقترحت أن يسجنوا سجنا مؤبدا.. ورضخ أبيها لرأيها وحقق لها رجاءها وهو الذى كان يؤثرها حتى على نفسه! أخذت سعدى تتردد على مرعى فى السجن كل ليلة فى خفية عن أبيها وقومها، فتكشف له عن غرامها به، ويسر إليها عن مكنون قلبه من عشق، ويفضى كلاهما للآخر بأحاديث الجوى.. غير أن مرعى ظل مشغولاً عقله بالمهمة التى تطوع من أجلها، حريص على الوفاء لأهله وقومه، شريف عفيف النفس لم يستجب لرغباتها، وإنما يعدها بزيجة كريمة تليق بمكانتها، إذا خرج من سجنه وأخبر قومه، فسيقطعون الفيافى من أجل خطبتها وعقد زواجها فيتم لهما "الفرح والهنا".. ولكن سعدى كانت تخشى أن يخرج من السجن فيرجع إلى قومه وينساها ووعده لها، وهى التى عشقته ولا تصبر على فراقه.. وكيف تحدث أبيها فى أمره ورفاقه وهى تعلم أنهم جواسيس، وأنهم خطر على ملك أبيها إذا اخلصوا من الأسر، فاحتالت عند أبيها لخروج أبى زيد، وجرت الأمور على ما قدر مرعى بأن أبى زيد سيعود ببنى هلال وأنصارهم فيغلبون الزناتى على أمره، ويخلصون الأسرى الثلاثة من سجنهم، كانت سعدى تنزل إلى مرعى كل ليلة تبثه نجواها، وظل هو على حال من القلق والترقب، كما ظل على وعده لها فهو فارس شريف ومن نسل عربى عريق، فلما وصلت طلائع الهلاليين والتحمت بجيوش الزناتى، قدر كلاهما أنهما أوشكا على تحقيق أملهما، ولكن الزناتى كان جبارا عنيدا فى وجه الغزاة الهلاليين وحلفاءهم، وضجرت الفتاة والفتى أيضا من طول الانتظار بأكثر مما ضجر المتحاربون من شراسة النزال، وظل العشق يستبد بمشاعر سعدى ويسلبها إرادتها حتى اتصلت بالهلاليين، وكشفت لهم عن الأسرار الحربية لأبيها، وأخبرتهم أن مصرعه لن يكون إلا على يد دياب ابن غانم كما أنبأه العرافون.. فكانت "الخيانة" التى أظفرتهم بالزناتى وبملكه! ثم كان غدر القضاء – إلى حين – بالفتاة أقسى من غدرها بأبيها، حيث انتظرت أن يفى مرعى بوعده عقب خروجه من السجن، لكنه لم يفعل!.. فذهبت إلى دياب – قاتل أبيها – و روت له حكايتها لعله يرق لحالها، فاحتجزها فى بيته وطلبها لنفسه لكنها واجهته بغلظة، فأراد أن يذل نفسها حتى تذعن له، فألبسها الخيش وقدم لها الطعام الخشن، وأمرها أن تطحن الملح!.. وظل يمعن فى القسوة عليها، حتى فرت إلى السلطان حسن وشكت إليه ما قاسته من دياب، ومن عدم وفاء مرعى بوعده لها، فرق السلطان لحالها وأمر أن تحيا فى بيته عزيزة مكرمة، وأخذ فى تعنيف دياب وحاسبه حسابا عسيرا، حتى أمر أن يلقى به مصفدا فى السجن!.. وتتوالى الأحداث حتى تزف سعدى إلى حبيبها مرعى. ومما لا شك فيه، أن خيال الرواة كان رائعا فى إبداع حكاية سعدى ومرعى وأحداثها الدرامية.. وقد استهوت عامة الناس بشكل لافت للنظر فجعلوا منها حكاية قائمة بذاتها.. تروى على الربابة، ويشاهدها الأطفال رسوما ساذجة فى "صندوق الدنيا" زمان!
الزناتى خليفة: أفاضت السيرة فى سرد رحلة بنى هلال إلى تونس، وما جرى لهم فى الطريق من الحروب الدامية ووقائع لقائهم للخفاجى عامر والملك الغضبان وشيب التميمى والبردويل بن راشد – وما لاحصر له من ملوك وشيوخ قبائل – إلى أن تم لهم فتح القيروان والتغلب على المعز بن باديس.. إلى وصف الحروب التى طالت مع: أبى سعدى الزناتى خليفة.. وتجعل السيرة من الزناتى خليفة بطلا ً نبيلا ً تهابه الأسود: جالس على الكرسى خليفة الغندور راجل منظره يهيب الأسوده بطل المغارب نعم وعنده شعور ياما فيه ناس حسودة وحقودة بطل الجنوب وبطل الأمل وتصنعه السيرة فى صورة رائعة من البطولة، فهو رمز لتاريخ طويل من النضال والمقاومة للهلاليين وأنصارهم: يقول الزناتى أفرس الفرسان فى القلب منى زايدة نيرانى بليت فيكم يا هلال بليه ربى بكم دون الملا أبلانى هذا الصراع تطلب كثيراً من الجهود والتضحيات من جانب الهلاليين بشكل مجد بطولتهم فى التغلب على عددهم الزناتى، والإشادة بقوتهم وشجاعتهم إذ قهروا عددا ً من الصعب أن يقهر! وتحكى السيرة عن الزناتى أنه كان "ابن جنية"!.. فكان إذا طعن بالسيف وأريق على جرحه قليل من "ماء الحياة" التأم جرعة لساعته مهما كانت خطورته! وربما لهذا السبب لم يستطع فارس من الفرسان أن ينال منه، مما حير فى أمره الهلاليين، فلم يقدروا على أن ينالوا منه إلا بالحيلة، إذ طعنه دياب فى عينه ووضع له أبوزيد السم فى الجرح حتى فى كل جسمه! وتضفى السيرة على الزناتى هالة من الفروسية والشجاعة، واسع الدراية بفنون الحرب والبراعة فى خداع أعدائه.. دانت الدنيا لسيفه وأذعن الشجعان لبطشه.. ولما اقتحم بنو هلال بلاده نفر إليهم وصبر على حربهم فى عناد وإصرار حتى أفنى الكثير من فرسانهم، وكان إذا ما قتل فارسا ً منهم اجتز رأسه وعلقه على سور القيروان إرهابا ً لهم وتشنيعا ً عليهم، مما يفت فى عضدهم ويحطم روحهم المعنوية أو ما يعرف فى عصرنا ب"الحرب النفسية"! كان الزناتى يدرك أن مصرعه لن يكون إلا على يد دياب بن غانم، كما أنبأه المنجمون وأهل العرافة، والهلاليون أيضا ً يعرفون ذلك!.. فلما ضجروا من قتاله وضاقت بهم الحيل، أرسلوا إلى دياب يثيرون نخوته بما قتل الزناتى من قومه.. فامتطى فرسه ودعاه إلى النزال، وأيقن الزناتى باقتراب مصرعه، ولكنه سارع لحرب دياب فى صبر وثبات وبراعة أطالت السيرة فى شرح وقائعها.. أدرك دياب أنه أمام خصم عنيد بالإضافة إلى ما كان يرتديه من الزرد والمغافر التى غطت جسمه، فأشار عليه أبوزيد بأن يطعنه فى عينه، ولما كان "ابن جنية" فلابد من أن يحتال أبو زيد قبل أن تلتأم جراحه مع صباح اليوم التالى، فتنكر فى هيئة طبيب وخرج فى الحى ينادى بمهنته، فطلبوه لإسعاف الزناتى من جرحه، فوضع له السم فى عينه ليضمن موته! وبهذه النهاية الدرامية للبطل النبيل، كان لزاما ً أن تلقى السيرة بالحكمة على لسانه و روحه تصعد إلى السماء: نفس الفتى لابد من زوالها الأيام والدنيا سريع زوالها تطوى عزيز ثم تطوى أرذالها قولوا واخراب الدار عقب اعتدالها! واستمرارا ً للنهاية الدرامية، تقص السيرة أن الزناتى علم بفعلة أبى زيد، وأن الجازية قصدته فوجدته فى موته فارسا ً مهابا ً، حتى إنها تلثمت عند رؤيته وهى التى لم تكن تتوارى من رجل مهما كان قدره! وبمصرعه لم يثبت قومه "زناته" للهلاليين إلا قليلا ً و دالت دولة "زناته"، فتم لهم الإستيلاء على تونس وتخوت الغرب السبعة!.. ملكنا بقتله الغرب وكل تخومه، وراحوا الزناتيين راحوا قسوم.. ويُعرف هذا القسم من السيرة بقصة: "السبع تخوت وسلطنة دياب وأبى زيد وتملك الأربع عشرة قلقة".. وفى فهرس دار الكتب المصرية أعجبتنى الإشارة التالية: "إنها قصة عجيبة وسيرة غريبة وهى من أحسن سير بنى هلال شعرا ً ونثرا ً، وأعجبها مقالا ً وأشدها حروبا ً ونزالا ً"!!