هبة عادل كان أطفال الفقراء بمنطقة شبرا بالقاهرة يطرقون الأبواب ويقومون بوضع طبق من «الصاج» خلسة أمام كل باب شقة، خصوصا فى شهر رمضان الكريم.. وكانت عندما تراه ربه المنزل تفهم مباشرة ما الغرض منه وتأخده وتضع به أطيب أنواع الطعام الذى يتناولونه على مائدتهم وليس مما يفيض منهم، وتضع معه الحلوى والفاكهة وتعيده مرة أخرى أمام الباب ليأتى هذا الطفل الذى لا يعرفه أحد ليأخذة ويذهب ليفطر مع أسرته.. سواء كانت أسرته مسلمة أم مسيحية.. ولا كان هناك اختلاف بين شخص، وآخر وتمارس جميع الشعائر الدينية بشكل مشترك بينهم.. فهذا الشهر يلعب جميع الأطفال بالفوانيس ويعلقون الزينة ويسهرون إلى الفجر إلى أن يأتى «المسحراتى» ويقول أسماءهم بدون اختلاف. وكان لقاء الأسر المسيحية مع جيرانها المسلمين فى إعداد الإفطار لهم بمنازلهم فكان كثير من أحياء الطبقة المتوسطة بحى شبرا والظاهر والعباسية والسيدة زينب ممتلئاً بالدفء والحنان بين أهلها، ويحتفلون بشهر رمضان من كل عام معا.. كما كان العديد من الأسر المسيحية تقوم بالصيام مع جيرانها المسلمين.. فتروى لنا السيدة عفاف لطفى بعض ذكرياتها عن طفولتها وعن حى شبرا الذى كانت تسكن به منذ الصغر وتقول: كان لى أصدقاء من الجيران مسلمون وكان الشارع فى هذا الشهر يمتلئ بالزينة وتعليق الفانوس فى وسطه الذى ينير الشارع طوال الشهر الكريم، فهذه الأنوار كانت تشعرك بالأمان والبهجة فكل منا يستطيع أن يذهب فى أى وقت متأخر من الليل لشراء أى شىء .. فهذه الحالة تربينا وكبرنا عليها وأيضا فى المدرسة كانت لى صديقة من فترة الصغر حتى هذا العمر فعندما كان يأتى شهر رمضان كنت أمتنع تماماً عن الطعام أو الشراب، فهذا الشعور كان وليدا للفطرة السليمة التى نشأنا وكبرنا عليها.. فأنا حتى الآن أصوم معها وأول يوم فى الصيام أذهب للإفطار معها وإعداد الطعام وأقوم بنفسى بصنع بعض الوجبات التى يحبونها فالفرحة والسعادة تملآن قلبى فى هذه الأيام القليلة من السنة. وتقول السيدة سعاد فكرى عن صديقتها نوال جارتها منذ الطفولة التى كانت تأخذ مصروفا من والدتها 2 مليم وتذهب معها إلى المدرسة وتتقاسمان شراء الحلوى والإفطار معا.. فهذه الصديقة ظلت رفيقة الحياة حتى وقتنا هذا فهى الأخت التى لم تلدها أمى والتى قضيت معها أجمل أيام شهر رمضان فقد كنت أتشارك معها الصيام منذ أن كان عمرنا 11 عاماً وأذهب للإفطار معهم فى اليوم الأول من الصيام، وكانت هى الأخرى تأكل معى الفول والطعمية فى صومنا.. وكان والدها يأتى لى بفانوس هدية ينير بالشمع .. ونذهب لنشترى الكنافة والقطايف والفول والعرقسوس والخروب.. ودائما نذهب لشراء ملابس العيد معا ونذهب لنركب المراجيح والأتوبيس النهرى فالعيد هو الفرحة لنا جميعا. وتقول مدام “ألفت نجيب” عن جارتهم السيدة “أم على “ التى كانت جدتها تقوم بعمل الطعام لها على “البابور الجاز” وتساعدها فى إعداد طعام الإفطار كل يوم، فكانت فى ذلك الوقت لا تتوافر الأفران أو البوتاجازات ذات العيون الكثيرة فى المنازل بذلك الوقت، وأدوات المطبخ كانت ليست كثيرة وكانت تستعير الأسر من بعضها البعض فى العزومات الأطباق والفناجيل لأنها كانت غير متوافرة عند الكثير من الأسر كما كانت تقوم جدتى بإعداد حلوى الأرز باللبن والمهلبية بالقمر الدين وتبعته معى لهم كما كانت تقوم “أم على” بإرسال الكنافة والقطايف كل يوم إلينا وفى نهاية الشهر يقومون معا بعمل كعك العيد ونذهب أنا وأبناؤها إلى الفرن ليخبز وبعد ذلك نعود ونرش عليه السكر ونأخذ العيدية من جدتهم أيضا، فكانت هذه العيدية بالنسبة لنا فرحة تختلف عن أى شىء لأنها كانت قليلة الحدوث. وتقول الأستاذة “وفاء أنور” التى تعمل فى بنك شهير عن طبيعة علاقاتها بزميلاتها فى العمل المقربات إليها وهن عبير وجيهان وأميرة فيتم الاتفاق بيننا على اللقاء مرة للإفطار من كل أسبوع فى منزل كل منا .. فقد نجد فى هذه الفترة مساحة أكبر للتجمع نحن وأسرنا والتقارب بين أولادنا ليتعرفوا على بعضهم وأن ينشأوا فى جو سوى لا يفرق بين مسيحى ومسلم فأنا الوحيدة من بينهن المسيحية ولكنى اعتدت منذ الصغر على شراء الفانوس والصوم مع صديقاتى فى المدرسة وعدم الشرب أمام أحد منهم فإننى أريد أن أربى أبنائى بطريقة سوية وبالفعل نجحنا جميعاً فى ذلك فجميع الأبناء أصدقاء ويتفهمون عادات وممارسات كل منا ونذهب للسهر فى الحسين هذا الحى الشهير الملىء بالقهاوى ونجلس ونستمتع بسماع بعض الموسيقى. كما يقول الحاج “ محمود” الذى يعمل “مدهباتى” للموبيليا عن أهل منطقته فى حى السيدة زينب، هذا الحى الملىء بالروحانيات والبركة وأهله الطيبين وعن صديقة “بولس” صاحب محل الموبيليا والذى يعمل نجاراً بجواره يقول: إنه فى شهر رمضان دائماً ما يأتى إليه بهدية فانوس يضعه فى وسط الشارع ويعلق الزينة أيضا.. كما أنه أثناء فترة اليوم لا يأكل أو يشرب عم بولس أمامى على الإطلاق وخصوصا الشاى والقهوة والسجائر التى هى ضبط المزاج اليومى لنا فهو يراعى مشاعرى كثيراً ودائماً نفطر معا وتحضر زوجته الإفطار لنا على مدار نحو 15 يوماً أى نصف الشهر عليه والنصف الآخر على أنا فهناك مشاركة لنا فى كل شىء فنحن نعرف بعضاً، منذ أكثر من ثلاثين عاماً ولا يوجد بيننا أى فرق أو اختلاف، فأولاده عندما يصنع لهم هو نجارة منزلهم أقوم أنا بعمل “التدهيب” والدهانات الخاصة بها ولا آخذ غير مقابل شراء تكاليف الخامات فهذا أقل شىء أقدمه لهذا الصديق ورفيق الأيام الحلوة والمرة. وتقول”مها” عن صديقتها شيماء التى تعرفت عليها فى بيت الطلبة فى الجامعة بمحافظة الشرقية والتى كانت معى أيضاً فى كلية التجارة ودائماً نذهب إلى القاهرة بالقطار كل خميس ونعود يوم السبت ونشأت بيننا صداقة استمرت أكثر من خمسة عشر عاما بعد أن تخرجنا من الجامعة وتزوجت كل منا وأصبح لدينا أطفال أصبحوا أصدقاء فى المدرسة، ومن الذكريات الخاصة بى هى شهر رمضان، حيث كانت والدتى تعطينى طعاما آخر، بالإضافة إلى طعام الجامعة، وكانت تعد خصيصا لصديقتى شيماء الكنافة والقطايف المحشوة بالجبنة لأنها كانت تعرف أنها تحبها وكنت أصوم معها وأنتظر موعد المدفع لأفطر معها ومع زملائى.. وحتى الآن ننتظر رمضان للإفطار معنا نحن وأسرنا ونخرج بعد ذلك لنسهر ونأكل الكنافة النابلسية ونشرب الخروب والتمر الهندى فى الحسين. ويذكر المهندس”ريمون” عن طفولته بحى مصر الجديدة وعن صديق والده فى العمل الدكتور مصطفى الذى دائما ما نذهب إليه فى قريتة بمحافظة المنوفية فى فصل الشتاء، وكان يعد لنا الفطير المشلتت والعسل والجبن القريش ونلهو ونلعب مع أبنائه ومن أهم المواقف التى أتذكرها هى ذهابنا معه فى شهر رمضان وكان لدى 13 عاماً وقرر والدى أن نصوم معهم فى ذلك اليوم وبالفعل قمنا بالصوم أنا وماريان أختى وهذه تعد أول مرة أقوم بهذه التجربة، حيث كانت مدرستى فى مصر الجديدة مدرسة فرنسية وكانت بها كنيسة وكنا لا نعلم الكثير عن إخواننا المسلمين، ولكن أسرتى كانت تهتم بأن تنمى لدينا ذلك الوعى والاهتمام بأن نعيّد عليهم وأن تحضر لنا فانوس رمضان من الزجاج الملون، والذى كان شكله جميلا الذى كنا نحتفظ به لسنوات لجودة صنعته بخلاف وقتنا هذا.