عثر على المواجهة: أحمد السماحى قبانى: لن ندخل نادى المتحضرين ما لم تتحول المرأة من شريحة لحم إلى معرض أزهار
بعد كل ما كتبته عن الحب.. أشعر بأننى لم أقل شيئا.. ولم أكتشف شيئا.. وأنا سعيد بجهلى!
الإبداع العربى الحقيقى لم يحدث فى رحم الوطن.. بل من خارج هذا الرحم
لو فقدت إيمانى بالمرأة سأفقد إيمانى بنفسى
دعيت لأقدم أمسية شعرية فى إحدى الدول الخليجية.. وعندما اكتشفت أن الأمسية (للرجال فقط).. بدأت أتلعثم.. وآكل نصف حروفى.. وشعرت بأننى أقرأ شعرى فى غابة من الأشواك والمسامير.. ولم أكرر التجربة!
المنفى حالة صحية.. لأنه مناقض للاسترخاء والطمأنينة.. والشاعر لا يستطيع أن يكتب إلا وهو قلق ومتوتر ومتحفز كنمر إفريقى
«جررت» إلى الشعر السياسى جرا، بحكم الأحداث المتفجرة التى أشعلت المنطقة العربية، أما شعر الحب، فقد ذهبت إليه باختياري، ولم يجرنى إليه أحد. الولادات التى تتم فى مراكب الشحن، وقطارات الدرجة الثالثة، وفوق أرصفة المقاهي، فهى الولادات التى أنجبت أهم شعراء العالم، إن قائمة المنفيين من الشعراء العرب طويلة جدا، بدءا بنقيب المنفيين أبى الطيب المتنبى، وانتهاء بأدونيس، ومحمود درويش، وسعدى يوسف، ومظفر النواب. الحزن جملنى، وثقفنى، وعلمنى ما لا أعلم، المنفى حالة صحية، لأنه مناقض للاسترخاء والطمأنينة، والشاعر لا يستطيع أن يكتب إلا وهو قلق، ومتوتر، ومتحفز كنمر إفريقى. من أهم المواجهات التى أجرتها مجلة «العربى» الكويتية على صدر صفحاتها، هذه المواجهة التى قامت بها الدكتورة الشاعرة سعاد الصباح، مع شاعر المرأة نزار قبانى، فى العدد «402» شهر إبريل عام 1992، كانت مواجهة رائعة، لهذا حرصنا فى العدد الخاص عن شاعرنا الكبير، أن تكون موجودة لأهميتها القصوى، فإليكم نص المواجهة. كلٍ المؤشرات تدل على أن الشعر، هو فى طريقه إلى الانقراض، ماذا فى تصورك سيحدث إذا انتهى الشعر فى العالم؟ أكيد أن العالم سوف ينتهى بانتهاء الشعر. وإذا انتهت المرأة، كيف تتصور شكل الكوكب؟ سيكون الخراب أكبر، ولن يكون هناك كوكب قابل للسكنى بدونها، إذا لم تكن هناك امرأة، فلن يكون هناك شيء، لا شمس، ولا قمر، ولا محيطات، ولا غابات، وإنما كوكب منطفئ، وأرض مالحة، وبيئة ملوثة، ومستودع كبير لرمى النفايات. ألهذا الحد أنت تؤمن بالمرأة؟ لو فقدت إيمانى بالمرأة فسأفقد إيمانى بنفسى، لأننى ولدت منها، كما هى ولدت منى، فأنا وهى أساس السلالات الأولى، فإذا انفصلت عنها، فسوف تتوقف حركة الكواكب، وحركة البحر، وحركة المد والجزر، وحركة الثقافات والحضارات كلها. هل المرأة ضرورية فى صناعة القصيدة؟ المرأة هى المادة الأساسية فى صناعتها، وإذا غابت المرأة عن القصيدة فسوف تتحول إلى معادلة حسابية، أو تقرير طبى، أو بيان انتخابى، أو تعليق سياسى فى جريدة يومية. وهل كل النساء مصدر من مصادر الشعر؟ طبعا لا فثمة نساء يحملن معهن الشعر، وثمة نساء يحملن معهن الصداع، كما أن ثمة نساء ينقلنك إلى مقاصير الجنة، وثمة نساء ينقلنك إلى مستشفى الأمراض العصبية. من هى المرأة - الشعر إذن؟ هى التى إذا لامست يدى يتكهرب الكون، وتزداد سرعة الكرة الأرضية، ويتحول تراب الأرض إلى ذهب، المرأة الشعر لا تأتى بسهولة، ولا ندرى متى تأتى ومن أين تأتى، لكنها إذا جاءت قلبت قوانين الطبيعة، وغيرت أسماء الأيام والشهور، وجعلت الثلج يسقط فى شهر تموز، وسنابل القمر تخرج من حقيبة الشتاء، والشمس تشرق من عينى حبيبتى. كتبت ألوف الصفحات عن الحب، ألا تعتقد أنك قلت كل شىء.. واكتشفت كل شىء؟ على العكس، فبعد كل ما كتبته عن الحب، أشعر بأننى لم أقل شيئا، ولم أكتشف شيئا، وأنا سعيد بجهلى! فالحب مثل غابات الأمازون، كلما تغلغل الإنسان فيها ضاع، الحب ليس طبق فاكهة نأكله ونشبع، ولا هو جريدة يومية نقرؤها ثم نرميها، ولا هو فيلم سينمائى نراه، وينتهى الأمر، الحب هو طموح نحو المعرفة، والاكتشاف، والتنبؤ، إنه مادة دائمة الاشتعال، وسفر بلا انتهاء، وطرح مستمر للأسئلة، نحن حين نحب، فإننا نخلق الشخص الآخر الذى نحبه، كما هو يخلقنا. وإذا كان الحب كبيرا وحقيقيا فإن عملية الخلق هذه لا تنتهى، أى أن الحب يتحول بين العاشقين إلى نوع من الإبداع، إننى بعد خمسين عاما من الكتابة عن الحب، لا أشعر أبدا أننى استهلكت هذه المادة السحرية المشعة التى أشتغل عليها، فما دام حبى، يتجدد، ويتغير، وبغير أشكاله، وأفكاره وحواره كل يوم فإنه لن يدخل منطقة الكسوف. ومادام (الآخر) الذى نحبه، لا يتوقف عن إحداث الدهشة والمفاجأة لنا، فإن الحب سيظل مشتعلاً، ومتفجرا، ونضيرا، وغير قابل لمرور الزمن، المهم أن يبقى الحب دائما مصدرا، من مصادر (الدهشة)، وألا يتحول مع الأيام إلى روتين وعادة يومية. كتبت ذات يوم تقول: (إنك أسست إمبراطورية شعرية، أكثر مواطنيها من النساء..) هل النساء هن قارئاتك الوحيدات؟ - لا.. النساء لسن قارئاتى الوحيدات، ولكنهن أفضل قرائى، وأجمل قرائى، وأكثرهم حساسية، الرجل عندما يقرأ الشعر يقرؤه بعضلاته، أما المرأة فهى تقرأ الشعر بعيون أنوثتها، الرجل يذهب إلى الأمسية الشعرية وهو مدجج بخشونته، وعجرفته، وغلاظته، والمرأة تذهب إلى الأمسية الشعرية، وهى مضرجة بابتسامتها، وعطرها، ورقتها، وإحساسها الحضاري.. أذكر أننى دعيت لأقدم أمسية شعرية فى إحدى الدول الخليجية، وعندما اكتشفت أن الأمسية هى (للرجال فقط)، بدأت أتلعثم، وآكل نصف حروفى، وشعرت بأننى أقرأ شعرى فى غابة من الأشواك والمسامير، كانت تلك الأمسية من أفشل أمسياتى الشعرية، أقسمت بعدها ألا أعود إلى هذه التجربة الذكورية المالحة أبدا. هذا كلام جميل يرفع معنويات النساء، فالمرأة العربية بحاجة إلى من يرفعها إلى الأعلى، ويؤكد لها أنها كائن شعرى رقيق لا مجرد ماكينة لتفريخ الأطفال، وطهو الطعام، وغسيل الصحون؟ هذا كلام قلته منذ الخمسينيات، ولا أزال أقوله فى التسعينيات، فالمرأة حجر أساسى فى بناء الحياة، وبناء الحضارات: لن ندخل إلى نادى المتحضرين ما لم تتحول المرأة لدينا من شريحة لحم.. إلى معرض أزهار. كان شعر الحب المحطة الرئيسية فى مسارك الشعرى، وكنت سيدا من أسياد الشعر الغزلى على مدى خمسين عاما، ثم انتقلت إلى حقل مختلف تماما، وهو حقل الشعر السياسى، حتى صار الناس يتابعون شعرك السياسى بالحماسة ذاتها التى كانوا يتابعون بها شعرك الغزلى، إذا طلبنا منك أن تقول لنا بصراحة مع أى المرحلتين تتعاطف، فماذا تقول؟ بكل صدق أقول إننى متعاطف مع شعرى الغزلى ضد شعرى السياسى، والسبب هو أننى (جررت) إلى الشعر السياسى جرا بحكم الأحداث المتفجرة التى أشعلت المنطقة العربية، أما شعر الحب، فقد ذهبت إليه باختيارى، ولم يجرنى إليه أحد. وبتعبير آخر أشعر بأننى فى شعرى الغزلى كنت سيدا على أوراقى، بينما كنت فى شعرى السياسى خاضعا لسلطة التاريخ السياسى على، وضغط الأحداث على أصابعى وأعصابى ربما لم أقل هذا الكلام قبل الآن لأحد، ولكننى اليوم أسجل هذا الاعتراف حتى أبرئ ذمتى أمام تاريخ الشعر. ولكن هل هذا يعنى أنك ستستقيل من الوطن، لتعود إلى المرأة، مثلما استقلت من المرأة ذات يوم، لتتزوج الوطن؟ لا أحد يستطيع أن يستقيل من وطنه، فالوطن هو عشق من نوع آخر، وطبيعة مختلفة، كل ما أستطيع أن أقوله هو أننى وصلت إلى معادلة شعرية يصبح فيها الوطن هو الحبيبة، وتصبح الحبيبة فيها وطنا، كما فى قصيدتين جديدتين من قصائدى (مع صديقة فى كافيتريا الشتات)، و(فاطمة تشترى عصفور الحزن). وأنا سعيد جدا بهذا الزواج الذى استطعت أن أعقده بين جسد الوطن، وجسد المرأة، وبين الياسمين المعرش على جدران مدينتى، والياسمين المعرش على ضفائر حبيبتى. «إنى أحبك، كى أبقى على صلة بالله، بالأرض، بالتاريخ، بالزمن بالماء، بالزرع، بالأطفال إن ضحكوا بالخبز، بالبحر، بالأصداف، بالسفن بنجمة الليل، تهدينى، أساورها بالشعر أسكنه، والجرح يسكنني أنت البلاد التى تغطى هويتها من لا يحبك.. يبقى دونما وطن). فى سيرتك الذاتية القصيرة (خمسون عاما مع الشعر) تقول: لا تعذبوا أنفسكم فى تصنيفى، إننى شاعر خارج التصنيف، وخارج الوصف والمواصفات، فلا أنا تقليدى، ولا أنا حداثوى، ولا أنا كلاسيكى، ولا أنا نيو- كلاسيكى، ولا أنا رومانسى، ولا أنا رمزى، ولا أنا ماضوى، ولا أنا مستقبلى، ولا أنا انطباعى، أو تكعيبى، أو سريالى.. إننى خلطة حرية) فالى أين تأخذك الحرية؟ إننى لا أناقش الحرية، ولا أطلب منها أن تعطينى خارطة الطريق، فالحرية تعرف دائما طريقها، الحرية تحررنى من كل الضغوط التى يمارسها التاريخ على أصابعى، تحررنى من كل أنظمة السير، ومن كل إشارات المرور، الحرية تحمينى من غباء آلات التسجيل، ومن السقوط بين أسنان الآلات الناسخة، تحمينى من ارتداء اللباس الموحد، والقماش الموحد، واللون الموحد، فالقصيدة ليست مجندة، ولا ممرضة، ولا مضيفة طيران. الحرية تسمح لى بأن ألبس اللغة التى أشاء فى الوقت الذى أشاء، لا أسمح لأحد أن يتدخل فى أشكالى، فلقد أكتب المعلقة الطويلة، ولقد أكتب (التلكس) الشعرى القصيدى، ولقد أكتب قصيدة التفعيلة، أو القصيدة الدائرية أو قصيدة النثر، ولقد أتزوج القافية ذات ليلة، وأطفقها فى اليوم التالى، وقد أتصعلك كعروة بن الورد، وقد أرتدى السموكن كاللوردات الإنجليز، وقد أعزف الجاز، وأغنى على طريقة (البيتلز). إن حريتى تدفعنى إلى ارتكاب حماقات كثيرة، ولكننى لا أعتذر، ولا أندم، فالشعر من دون حماقة هو موعظة فى كنيسة، وبيان انتخابى لا يقرؤه أحد. التقليديون لا يعتبرونك تقليديا، والأصوليون لا يعتبرونك أصوليا، والحداثيون لا يعتبرونك حداثيا، فمن أنت إذن فى زحمة الألقاب الشعرية؟ - أنا نزار قبانى فقط، دون إضافة أى حرف، ودون حذف أى حرف، أنا هذه الرائحة الخصوصية التى يشمها القراء العرب، ولو كنت مقيما فى الصين الشعبية، أو فى جزر القمر. أنا هذه البصمات الواضحة على الورق، والتى لا يمكن لأحد أن يقلدها أو يزورها، أنا هذه اللغة التى اشتغلت فى نحتها كالصائغ على مدى خمسين عاما، ولم يتمكن أى صائغ آخر من صياغة لغة تشبهها فى بساطتها، وديناميكيتها، وديمقراطيتها. إننى لست بحاجة إلى أى لقب سلطانى، أو إلى أى فرمان عثمانى حتى أعرف من أنا، فالألقاب الشعرية لا تصدر من فوق، بل تصدر من تحت، حيث الملايين تبحث عن كسرة خبز، أو كسرة حرية، من هذه الملايين أستمد سلطتى الشعرية، ومن هذه الملايين أتسلم أوراق اعتمادى كسفير فوق العادة للطيبين، والبسطاء، والمعذبين فى الأرض، ومن هذه الملايين أنال أصواتى الانتخابية، لا من وزارات الثقافة، ولا من النقاد، ولا من أجهزة المباحث. أنت تعتبر الجمهور المحكمة العليا التى تتولى الفصل فى قضايا الشعر، فى حين تعتبر جماعة الحداثة أن التواصل مع الجمهور عمل مسىء للشعر ومناقض له، وأن الشاعر الكبير هو شاعر لا جمهور له، لأن الجمهور يستمع إلى الشعر بغرائزه، وذاكرته التاريخية، وذوقه المتخلف، فكيف تفسر كلامهم؟ القول إن الشاعر الكبير هو شاعر لا جمهور له، هو قول لا يصدر إلا عن الفاشلين، والمحبطين، والمعقدين، إنه نكتة سمجة لا تضحك أحدا، الحداثيون يحتقرون الجمهور لأنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إليه، أو يلقوا القبض عليه ليستمع إلى شعرهم، إن حكايتهم مع الجمهور، تذكرنى بحكاية الثعلب الذى لم يستطع أن يطول عنقود العنب، فقال عنه إنه حامض. ما مشكلة جماعة الحداثة، وهل تتصور أنهم استطاعوا تغيير الحساسية الشعرية للشعب العربى، كما يزعمون؟ مشكلتهم أنهم يقفون على أرض لا وجود لها، ويخاطبون بشرا لا وجود لهم، إنهم معاصرون لا عصر لهم، ولغويون لا لغة لهم، ومستقبليون لا مكان لهم فى المستقبل، إنهم منذ ثلاثين عاما أو أكثر، يحرثون البحر دون أن تطلع لهم الحنطة، ودون أن يتمكنوا من تغيير سنتيمتر واحد فى الحساسية الشعرية العربية. إن مأزقهم الكبير هو أنهم يريدون أن يبنوا مدينة جديدة للشعر وليس معهم حجارة، ويريدون أن يزرعوا الأشجار المثمرة، وليس معهم بذور، ويريدون أن يصححوا التاريخ ولا تاريخ لهم، إن الحداثة لم تستطع منذ ثلاثة عقود أن تسجل هدفا واحدا فى ملعب الشعر، وبقيت تلعب وحدها دون كرة، ودون أنصار، ودون متفرجين. هل أنت ضد الحداثة فى الشعر؟ أنا ضد الفوضى، وضد التخريب، وضد العدمية، فالشعر هو قبل كل شيء نظام وانضباط، ومسئولية، إننى أفتح قلبى لأى شعر جديد يقنعنى بأنه شعر، ولكننى لا أستطيع أن أكون مع هذه الهيستيريا اللغوية التى اسمها الحداثة، إننى غير متمسك بالصياغات والأشكال القديمة أبدأ، ولا أنا متمسك (بالقصيدة العصماء)، و(المعلقات)، وتفاعيل الخليل بن أحمد الفراهيدي. فالأشكال الشعرية لا تتمتع بالقداسة التاريخية والأزلية، وموسيقى الشعر العربى ليست موسيقى لا تقبل المراجعة أو التغيير، فالشعر نهر يغير أمواجه فى كل لحظة، ولكنه يبقى نهرا، وأنا أرفض أى دعوى حداثة تطالب بإلغاء النهر، وشطبه من أطلس الجغرافيا. وكما تغيرت ملابسنا، وبيوتنا، وطعامنا، وعاداتنا، وأذواقنا وانتقلنا من مرحلة البادية إلى مرحلة المدنية، فإن شعرنا هو الآخر تغير، واختلف جذريا، عن الشعر الجاهلى والأموى والعباسي. فلا الفرزدق له اليوم شعبيته، ولا النابغة الذبيانى محبوب لدى أطفالنا، ولا عمرو بن كلثوم يشرب القهوة معنا فى الكافتيريا، إن لغتنا الشعرية اختلفت 180 درجة عما كانت عليه فى القرن الأول للهجرة، وكذلك اختلفت صياغاتنا، وأفكارنا، وعاداتنا الشعرية. وهذا يعنى أننا نتطور، ونتغير، ونستجيب لمتطلبات العصر، دون أن نكون بحاجة إلى من ينسف بيوتنا بالديناميت.. ويحول تاريخنا الشعرى إلى رماد، إن مدينة الشعر تتغير بطلاء جدرانها، وتوسيع ساحاتها، وإضاءة شوارعها، وتجميل حدائقها، أما استعمال (البلدوزر) لتحديث الشعر العربى، فهو عمل إرهابى أرفضه رفضا قاطعا.
الملائكة لا يكتبون الشعر هل يحتاج العرب إلى الشعر فى وضعهم الراهن، أم هم بحاجة إلى العلوم الوضعية كالفيزياء، والكيمياء، وعلوم الذرة والأبحاث الفضائية؟ وبالتالى هل الشعر فى رأيك هو نقطة ضعف العرب، أم نقطة قوتهم؟ - هذه أسئلة تحمل الشعر فوق ما يحتمل، وتجعله مسئولا عن كل ما يعانى منه العرب من تخلف وتفكك وانحطاط، والصحيح أن التردى العربى لم يكن سببه الشعر، بل له ألف سبب وسبب غير الشعر، فالشعر ليس مسئولا عن هذا التلوث السياسى الرهيب الذى يسود المنطقة العربية، وليس مسئولا عن هذا السقوط القومى الكبير الذى وصلنا إليه بسبب تسلط المتسلطين، ومغامرة المغامرين، وليس مسئولا عن هذا التشرذم الذى يأكل الأخضر واليابس فى جسد الأمة العربية. الشعر بريء من كل هذه النفايات السياسية والماكيافيلية والغوغائية التى تحاصره، إنه ليس سبب هذا البلاء الكبير، ولكنه ضحيته، وإذا كان الشعر يعانى من العصاب، والشيزوفرانيا، والخبل والصرع، والكوابيس، فلأن المناخ العربى السائد نقل إليه عن طريق العدوى كل هذه الأمراض النفسية القاتلة. إذن، فالشعر ليس نقطة ضعف العرب، ولا نقطة قوتهم، ولكنه مرآة عاكسة لكل ما يجرى على المسرح العربي. من أين يأتى الشعر، وإلى أين يذهب؟ يأتى من الإنسان، ويذهب إلى الإنسان، الشعر هو إفراز إنسانى مائة بالمائة، أما الملائكة فلا يكتبون الشعر ولا يقرأونه. لماذا لا يحكم الشعراء فى العالم العربى ليقيموا أساسات المدينة الفاضلة! التى يبشرون بها؟ أولا: لأنه لم يطلب منا أحد أن نحكم، ثانيا: لأن جميع مقاعد الحكم مشغولة، ثالثا: لأن أنبياء الديمقراطية فى بلانا، أكثر من الهم على القلب، وليس هناك حاجة لأنبياء جدد، رابعا: لأننا نخاف على زوجاتنا وأولادنا من الترمل، واليتم، خامسا: لأن القصيدة تخاف أن يخطفها رجال المباحث، وتسجل القضية باسم مجهول. فى قصائدك الأخيرة، تتجلى نبرة (المنفى) واضحة بين الحروف. هل تعتقد أن المنفى هو حالة استثنائية يمر بها الشعر العربى اليوم، أم أنها حالة مألوفة وكلاسيكية؟ أتصور أن الشعر العربى عبر تاريخه الطويل كان شعراً منفياً، وأن الإبداع العربى الحقيقى والأصيل، لم يحدث فى رحم الوطن، بل حدث خارج هذا الرحم، الولادات الطبيعية التى تتم فى المستشفيات الوطنية، وفى غرف الدرجة الأولى، لا تعطى أطفالا باهرين ومتفردين. أما الولادات التى تتم فى مراكب الشحن، وقطارات الدرجة الثالثة، وفوق أرصفة المقاهى، فهى الولادات التى أنجبت أهم شعراء العالم، إن قائمة المنفيين من الشعراء العرب طويلة جدا، بدءا بنقيب المنفيين أبى الطيب المتنبى، وانتهاء بأدونيس، ومحمود درويش، وسعدى يوسف، ومظفر النواب. إن الحكمة القديمة التى تقول (لا مكان لنبى فى وطنه) تثبت أن علاقة الأوطان بشعرائها كانت دائما علاقات قلقة، ومتوترة، وغير طيبة، إن الشاعر مرتبط بسلطة الشعر فقط، وعندما يجد الشاعر أن سلطته تتناقض مع السلطات الأخرى، لا يبقى أمامه سوى الرحيل. من يتابع أخبارك فى المنفى، يلاحظ أنك أصبحت أكثر عطاء وتدفقا، وأصبح حزنك أكثر جمالا، هل نستطيع أن نقول إن الحزن يجملنا؟ نعم، أستطيع أن أقول إن الحزن جملنى، وثقفنى، وعلمنى مالا أعلم، المنفى حالة صحية، لأنه مناقض للاسترخاء والطمأنينة، والشاعر لا يستطيع أن يكتب إلا وهو قلق، ومتوتر، ومتحفز كنمر إفريقى. ثم إن المنفى ليس منفى جغرافيا فقط، لكنه منفى عقلى، ونفسى أيضا، فليس ضروريا أن تكون خارج وطنك لتكون منفيا، فهناك منفيون داخل أوطانهم، وهذا هو المنفى الأشد فجيعة وإيلاما. «يا رب: إن لكل جرح ساحلاً وأنا جراحاتى بغير سواحل.. كل المنافى لا تبدد وحشتى ما دام منفاى الكبير بداخلى» جميع من قرأوا مجموعتك الشعرية الأخيرة (هل تسمعين صهيل أحزاني)، قالوا إنها من أفضل مجموعاتك، وإنك عدت فيها إلى زخمك الشعرى القديم، ونضارتك الأولى، برغم مسحة الحزن الواضحة فى أكثر قصائدها؟ أنا سعيد بأن يكون صهيل أحزانى قد وصل إلى قلوب الناس. الواقع أنه ليس لدى من طموح سوى السفر إلى وجدان الآخرين، والدخول فى دورتهم الدموية، هذا هو فى نظرى مجد الشاعر، وانتصاره الكبير، أما الحزن فى هذه المجموعة الشعرية فهو ليس حزنى الخصوصى، بل هو حزن مائتى مليون عربى يذبحهم الحزن كل يوم، ولا يعرفون كيف يعبرون عنه.