أحمد السيوفى كل المفكرين الأكراد الذين التقيتهم فى مؤتمرات متعددة، سواء منهم القوميين مثل المفكر الراحل فاضل سول أم الإسلاميين مثل الدكتور على القرداغى وغيرهم من المثقفين، أجمعوا على أن الشعب الكردى والقضية الكردية برمتها تدفع ثمن جهاد صلاح الدين الأيوبى وتحريره للقدس إبان الحروب الصليبية، باعتبار أن صلاح الدين الأيوبى كان كرديا. لهذا اتفق رجال سايكس بيكو على أن يتم تقسيم الأكراد على خمس دول هى: تركيا وإيران والعراق وسوريا وروسيا، وطبقا للمصادر الكردية، فإن عمليات التفكيك للأكراد بدأت قبل سايكس بيكو، لكن دول التقسيم وهى بريطانياوفرنساوروسيا عندما قسمت المناطق الكردية وجدتها مهيأة، لذلك ففى القرن الماضى فوض السلطان العثمانى العلامة إدريس، وهو أحد قيادات الكرد بعقد اتفاقية مع قادة الكرد تتضمن اعتراف الدولة العثمانية بالإمارات الكردية وبقاء الحكم الوراثى فيها، والتزمت الاستانة بالدفاع عن هذه الممالك فى مواجهة أى اعتداء عليها، مقابل أن تدفع هذه الممالك ضرائب أو رسوم للدولة، وأن تشارك إلى جانب الجيش العثمانى فى أى معارك للدولة، وهذا الاعتراف من جانب الدولة العثمانية بالممالك الكردية كان بداية لزرع جذور التفكيك والتشقق.
وفى عام 1911 تم توقيع اتفاقية تخطيط الحدود بين الدولتين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية، وكذلك توقيع بروتوكول الآستانة للغرض نفسه. وكل هذه المعاهدات باتت تكرس لتفكيك كردستان. الدول الأوروبية من جانبها أدركت أن الأوضاع مهيأة لعمل أى ترتيبات فى كردستان، ومن ثم أرسلت العديد من البعثات التبشيرية ورحلات متنوعة، وكذلك عن طريق بعض القنصليات، خصوصا قنصليات بريطانياوفرنساوروسيا ثم أمريكا، وقامت كل هذه الجهات بعمل أدوار متعددة فى تحريض العشائر ضد الدولة العثمانية خاصة ثم الإيرانية، حتى تتهاوى خيوط الترابط بين الأكراد وهذه الدول، مما يدفع الأكراد إلى طلب الانفصال، ومن ثم يخلق أزمة مع هذه الدول، الأمر الذى أدى إلى عجز هذه الدول عن بسط سيطرتها على هذا الإقليم المتمرد. ونجحت هذه الجهود الدولية فى نقل قضية الأكراد من المستوى الإقليمى إلى المستوى الدولى، وهناك بطبيعة الحال أسباب دفعت إلى بروز القضية الكردية، ومن ثم تزايد الصراع الدولى والإقليمى حولها، أهم هذه الأسباب تزايد حدة الصراع بين الأوروبيين والروس خوفا من الدول الأوروبية من أن يمتد أو يتمدد الروس فى بلاد ما بين النهرين، حيث لعبت شركة الهندالشرقية دورا مهما كمحور تجسس مهم فى المنطقة. كما كانت هناك محاولات تجسس أخرى قامت بها فرنسا للتغلغل فى كردستان عن طريق الإرساليات التبشيرية. كما أن أمريكا كانت موجودة أيضا فى كردستان، على عكس ما كان شائعا من أن أمريكا التزمت بمبدأ مونرو الذى يحض على عدم التورط فى قضايا سياسية دولية خارج أمريكا. السبب الثانى يتعلق بموقف الكرد أنفسهم، حيث بات قادتهم يتقربون إلى الأجانب خصوصا البريطانيين، ولا يخفى هنا الدور الذى قام به القيادى الكردى الدبلوماسى المعروف شريف باشا الذى كانت له اتصالات كبيرة مع الإنجليز، وعرض خدماته على الحكومة البريطانية، لهذا عندما احتلت بريطانياالعراق كانت تعليمات وزارة الخارجية البريطانية لسفيرها برس كوكس أن يلتقى بشريف باشا فى مدينة مرسيليا الفرنسية للتفاهم معه والاستماع إلى وجهة نظره . كل هذه الأسباب هيأت الأوضاع على الأرض لاتفاقية سايكس بيكو عام 1916، حيث اجتمع وزراء خارجية روسياوبريطانياوفرنسا ودارت بينهم مباحثات حول الترتيبات المقبلة للشرق الأوسط أو لنقل تقسيم تركة الدول العثمانية بعد أن أصبحت هزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية وشيكة . ولأن القسم الأكبر من كردستان كان يتبع أو يقع تحت سيطرة الدولة العثمانية، فقد عقد هذا القضية الكردية وأخرجها من الطابع الإقليمى إلى الطابع الدولى، فأصبحت اتفاقية سايكس بيكو أول اتفاقية دولية تكرس الانقسام والانشطار وتفكيك كردستان وتوزيعها على ست دول، بحيث يظل الصراع دائرا بين هذه الدول وبين الأكراد. وبدأت محاولات توسيع هوة الانشقاق من قبل الدول الكبرى حيث الأتراك فى آسيا الوسطى القوقاز، الأمر الذى دفع الأكراد لبذل جهود مضنية للحيلولة دون تقسيمهم لما سيترتب على ذلك من تصفية قضيتهم، وكان التحرك الأول فى مؤتمر الصلح الذى عقد عام 1919 فى باريس، كمحاولة أخيرة لإيصال صوتهم كى ينالوا حقوقهم المشروعة بعد أن صرح الرئيس الأمريكى ويدرو ويلس أن الشعوب من حقها أن تقرر مصيرها ضمن ما أصدره من البنود الأربعة عشر. غير أن الكرد لم يكن لهم كيان شرعى كشأن عدد من القوميات الأخرى، لهذا خول قادة العشائر الكردية شريف باشا لتمثيلهم والمطالبة بالمطالب الكردية المشروعة، غير أن الجميع باع الأكراد، وأصدر الحلفاء قرارا فى شهر يناير 1919 بأنهم - أى الحلفاء -اتفقوا على أن أرمينيا وبلاد الرافدين وكردستان وفلسطين والبلاد العربية يجب انتزاعها بالكامل من سيطرة الدولة العثمانية، وأن تصبح تحت قبضة الدول الغربية. وفى مارس 1920 شكل المؤتمر لجنة دولية لرسم الحدود لهذه المناطق بموجب مبدأ القوميات، لتصبح كردستان، هى المنطقة التى تتمتع بأغلبية كردية، بينما المناطق التى بها أقليات كردية فإنها تخضع للدول الأخرى بموجب رسم الحدود. وأشارت المذكرة إلى أن الأتراك يتظاهرون بأنهم يتبنون القضية الكردية غير أن الحقيقة غير ذلك، وفى إطار التلاعب بمشاعر الأكراد طالب شريف باشا القيادى الكردى المتحالف مع البريطانيين رسميا من رئيس المؤتمر جورج كليمنجو بأن يمارس نفوذه ضد حكومة الآستانة لمنع اضطهاد الشعب الكردى وقال: إنه منذ أن تسلمت جماعة الاتحاد والترقى السلطة، فإن جميع الذين يحملون آمال الحرية للقوميات تعرضوا لاضطهاد واسع وأنه من الواجب الإنسانى أن يمنع ذلك، واندهش شريف باشا ومن ورائه الأكراد أن الدول الغربية متعاطفة فقط مع القضية الأرمينية، حيث اضطهد أتاتورك كل القوميات بمن فيهم الأكراد والأرمن والعرب، لكن الغرب لم يتعاطف إلا مع الأرمن بسبب الانتماء الدينى للأرمن فتم توظيف أزمة الأرمن والكرد من جانب الغرب، فحركوا شريف باشا لكى يعقد اتفاقية مع ممثل الأرمن بوغوص نوبار وفى حضور رئيس وفد جمهورية أرمينيا، ووقع الجانبان اتفاقية باسم الشعبين، مؤكدين فيها أن للكرد والأرمن مصالح وأهدافا مشتركة هى الاستقلال والتخلص من السيطرة العثمانية، ووافق المجلس على هذا الاتفاق ووصف المندوب السامى البريطانى الاتفاقية بأنها من البشائر، ولمزيد من تفكيك القضية انعقدت معاهدة سيفر 1921 فأدخل شريف باشا فيها ثلاثة بنود تتعلق بالقضية الكردية التى أبرمها الحلفاء فى باريس فى أغسطس 1920، حيث تم تكريس تدويل القضية الكردية بعد تقطيع كردستان، ورأت دول الحلفاء أن للكرد أهلية للاستقلال عن الحكومة العثمانية أو الدولة العثمانية، وكان القصد هو الاستقلال عن الدولة العثمانية وليس استقلال الدولة الكردية التى كان يسعى لها الأكراد، وأخذت المسألة بعدا دوليا وأصبحت جزءا من المعاهدات والقوانين الدولية، ثم نجح مصطفى أتاتورك بحكم علاقاته مع الغرب فى إبطال مفعول معاهدة سيفر التى كان من المفترض أن تحفظ بعض حقوق الأكراد. ثم جاءت معاهدة لندن 1921 والتى حاول فيه الحلفاء الغربيون إعطاء بعض التنازلات للقوميات التى تعرضت للظلم، غير أن الحكومة التركية أصرت على أن مسألة الأقليات مسألة داخلية، ثم قام أتاتورك بإلغاء جميع المعاهدات الدولية بما فيها معاهدة سيفر، مما أدى إلى تعزيز مكانة الحكومة التركية وتمزق ما تبقى من أنسجة للمنظومة الكردية . غير أن عددا من المستجدات جدت على الساحة الدولية، كان من بينها الانتصارات الكبيرة التى حققتها تركيا على اليونان، وبهذا ظهرت تركيا بمظهر الدولة القوية، وازداد بفضل ذلك نفوذها الدولى واستطاعت أن تحسن علاقاتها مع جارها السوفيتى، ومن ثم جاءت معاهدة لوزان عام 1923 والتى عقدت المباحثات على فترتين استمرت فترة المباحثات الأولى ثلاثة أشهر بين عامى 1922،1923، ونصت معاهدة لوزان على أن تتعهد أنقرة بمنح معظم سكان تركيا الحماية التامة والحرية الكاملة للجميع، لكن الجديد فى هذه المعاهدة أنها لم تشر إلى الأكراد بأى إشارة وانما كانت على وجه العموم، وهذا فى الواقع يمثل نقلة كبيرة وهى تعزيز التقسيم، وأدى ذلك إلى ازدياد المشكلة التركية وتعقيداتها، وأصبح الشعب الكردى موزعا على أربع دول ككتل كبيرة وهى تركياوالعراق وإيران وسوريا، وجزء ضيق فى روسيا، وشعر الشعب الكردى بالظلم بأن هذا الشعب الضخم يتم تقسيمه على خمس دول، بينما يتم إنشاء دولة صغيرة لا يزيد تعداد سكانها على مليون نسمة. بينما يصل عدد الأكراد فى الدول الخمس مجتمعة أكثر من 30 مليون نسمة، لهذا فإن الإحساس بالظلم دفع بعض الأكراد إلى الدخول فى صراع مع الدول التابعين لها، وبلغ هذا الصراع مداه بتحويله إلى صراع مسلح مثلما فعل حزب العمال الكردستانى.،والأكراد يدركون أن سايكس بيكو كانت لها آثار مدمرة على الشعب الكردى دفعوا من خلالها فاتورة باهظة تمثلت فى القتل والاضطهاد والتشريد ومنع الحقوق، مثل عدم سماح بعض الدول للكرد بالتعلم بلغتهم وعدم اعتماد اللغة الكردية، باعتبارها لغة ثانية، وكذلك منع وجود وسائل إعلام بتلك اللغة، وهذا ما جعل الأكراد يسعون للانفصال عن هذه الدول وتكوين الدولة الكردية، وللأسف بدأ مشروع الانفصال ينجح فى العراق، فما حدث فى العراق هو انفصال لا ينقصه سوى الإعلان الرسمى عن ذلك، والاعتراف الدولى به، لأن الدولة فى العلوم السياسية هى شعب وأرض ومنظومة سياسية، والأرض موجودة والشعب موجود والمنظومة السياسية تكاد تكون مكتملة، فهناك شرطة وجيش وبرلمان وعلم فماذا ينقص من مكونات الدولة؟ لهذا لم نستغرب من تصريح السيد مسعود البارزانى، وهو أهم قيادة كردية عراقية، أن صفحة سايكس بيكو بالنسبة لنا قد طويت. فإذا نجح الأكراد فى العراق من الاقتراب من تأسيس الدولة فهل سينجحون فى الدول الأخرى مثل تركيا وإيران وسوريا، فى الأخيرة حققوا نجاحات واضحة، لكن فى الدول الأخرى من الواضح أن الصراع سيزداد والصراع مرشح لمزيد من الاشتعال، والدماء مرشحة لأن تنزف بغزارة، وتلك كانت مقاصد سايكس بيكو.