كرم سعيد لم تعد أخبار الطلاق فى مصر حدثاً استثنائياً، فلا يمكن أن يمر يوم من دون تسجيل حالة طلاق ولأسباب غالبا ما تكون بسيطة. وقد كشف الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى أغسطس 2014فى نشرته السنوية لإحصاء الزواج والطلاق عن انخفاض حالات الزواج بنحو 1.4%، وارتفاع حالات الطلاق فى مصر بنحو 4.7%.. صحيح أن الاختيار الخاطئ لشريك الحياة والتوترات المجتمعية والضغوطات المعيشية تؤدى إلى تصاعد ظاهرة الطلاق، إلا أن ثمة عوامل سياسية تقف وراء تصاعد ظاهرة الطلاق. لا تحتاج ظاهرة الطلاق فى مصر إلى البحث أو التنقيب، إذ تشير الإحصائيات، إلى ارتفاع حالات الطلاق بشكل ملحوظ خاصة بين الشباب فى الفئة العمرية من 25عاما إلى 35عاما. ظاهرة الطلاق فى مصر تكشف عن تفكك النسيج المجتمعى وتنامى الاحتقانات الاجتماعية مع تحول أبسط الخلافات الأسرية إلى نزاع يمكن أن يؤدى إلى وقوع الطلاق. ووفقاً لدراسة أعدها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار فى العام 2013تقع 240حالة طلاق يوميًا، أى بمعدل حالة طلاق كل 6دقائق، والمطلقات وصلن إلى 2.5مليون. كما كشفت الدراسة عن أن معدلات الطلاق فى مصر تتزايد بنحو 5آلاف حالة سنويا، منها 86ألفا فى مناطق الحضر مقابل نحو 75ألف حالة فى الريف.. ومع أن الدعوة للحد من ظاهرة الطلاق فى مصر أخذت شكلا متنامياً فى السنوات الأخيرة ولازمتها بعض الدراسات والأبحاث والمقاربات والشعارات، إلا أن الظاهرة نفسها لم تلق عناية كافية لتصميم إستراتيجية متكاملة تعتمد على تفهم الأبعاد الثقافية المؤثرة فى وجود واستمرار هذه الظاهرة، وما تزال فى حاجة إلى الكثير من الفحص والدراسة لتطوير معتقداتنا الثقافية الخاطئة بشأن النظرة للمطلقات. فالصورة الذهنية للمرأة المطلقة تأتى، انطلاقا من مقولات معظمها ترتبط بتأويلات خاطئة للدين أو خرافات ثقافية توارثتها الأجيال، كما أنها ترتبط بالأساس بتقاليد اجتماعية وليس بثوابت دينية.
المطلقة فى الوعى الجمعى والواقع أن ثمة صورة نمطية سلبية للمطلقات فى الوعى الجمعى المصري، خصوصا أن جزءا كبيرا من ثقافتنا المصرية تحط من المرأة المطلقة، فثمة اعتقاد لدى قطاع عريض من الذكور أن المرأة المطلقة مستباحة. أيضا ما زالت صورة المرأة المطلقة فى الثقافة العائلية المصرية، هى منحرفة ومستعدة لممارسة الهوى، وينظر لها على أنها قد أوصمت العائلة بالعار، فتعيش تحت أقدامهن ممنوعة من الحركة أو ممارسة حياتها الطبيعية. وشعور المطلقات بأنهن مرفوضات أو منبوذات من المجتمع يجعلهن يملن إلى الانطواء والأنانية وعدم القدرة على تحمل المسئولية. من جهة أخرى فإن ثمة ثقافة مريضة لدى النساء المتزوجات فى نظرتهن للمطلقات، حيث يعاملن المطلقة على أنها خاطفة للرجال، لاسيما أن هاجس متوارث لديهن من قدرة المطلقة من إيقاع أزواجهن فى الشرك، لذلك ليس مستغرباً أن يقمن بتشويه سمعة المطلقات، أو منعهن من دخول بيوتهن. هذه الدلالات يقف خلفها تراث شعبى مرتبط بالثقافة الأبوية، ويضع المطلقة فى مرتبة أدنى، وتتضح هذه النظرة إذا أطلعنا على بعض الأمثلة العامية مثل “لا تأخذ المطلق ولا تسكن فى المعلق”، و”طلق الخايبه ولو تاخذ شايبه”، و”أتجوز معلقة ولا تتجوز مطلقة”، و”ظل رجل ولا ظل حيطة”، «والبنت يا تسترها يا تقبرها». والأرجح أن هذه الأمثال الشعبية تعبر عن الفولكلور وتنقل الفكر والاتجاه الشعبى للمجتمع بما يحويه من معتقدات تجاه المطلقات، مما يجعلها جزءا مهما من ثقافة الشعوب وانعكاساً للخبايا النفسية لكل مجتمع، كما أنها تنقل القوانين والأعراف الاجتماعية التى يلتزم بها الجميع، بما تنقله من صور ونماذج عديدة لجوانب من الحياة الإنسانية. على الضفة الأخرى من النهر تؤكد هذه الأمثال أن الموروث الاجتماعى الذى ينشأ عليه الرجل العربى عموماً، والمصرى بصفة خاصة يضع المطلقة موضعا غير لائق. مصدر البيانات:الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء
أسباب ودوافع الطلاق تقف العديد من السلوكيات الثقافية الخاطئة وراء تنامى ظاهرة الطلاق فى المجتمع المصري، إذ يحتكم قطاع واسع من المجتمع فى التعامل مع العلاقات الأسرية إلى موروثات ثقافية منها هيمنة الثقافة الأبوية على المتزوجين، فضلا عن أزمة العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة، والتى تقف وراء انهيار الحياة الزوجية فى كثير من الأحيان. فقد يعانى أى من طرفى العلاقة الزوجية من ضعف جنسى دون أن يفصح للآخر، أو يحاول الالتفاف والتحايل على الأزمة أطول وقت ممكن. ويقف الخجل والعادات والتقاليد وراء منع مرضى الضعف الجنسى من الذهاب إلى الطبيب، ووفقاً لبعض المؤشرات فى مصر، فإن 10%فقط من مرضى الضعف الجنسى يذهبون إلى الطبيب، مقابل 15%فى بعض الدول العربية. وعلى صعيد ذى شأن فقد تعامل الإعلام مع مرض الضعف الجنسى، إما من باب الفكاهة والابتذال دون أن يطرحها بالجدية اللازمة، ومن ذلك فيلم “النوم فى العسل”الذى أنتجته السينما المصرية عام 1996، وفيلم “فرحان ملازم آدم”الذى عُرض فى العام 2010، وكذلك فيلم “سهر الليالي”الذى كان أفضل نسبياً فى معالجته للعلاقات الزوجية. ويعود السبب الثالث إلى ما يمكن تسميته بأزمة منتصف العمر التى وصفتها الكاتبة الإنجليزية “كارول دينكلاج”هو بالتحديد (منتصف الطريق بين الشباب والكَبر.. بين الشابة اليافعة والمرأة المسنة.. بين صدور كالبراعم وصدور متغصنة.. بين أمى وابنتى.. بين الغيرة من شباب الابنة والخوف من كبر الأم.. إنى فى هبوط.. حائرة بين صرحين.. على وشك أن تخرجنى من اللعبة.. إحداهما). فى هذه المرحلة من العمر التى ينقطع فيها الطمث وينتهى دور المرأة كمعمل تفريغ للأطفال، وهو ما يشيع تسميته ب “سن اليأس”تواجه المرأة أزمات نفسية واجتماعية ربما يكون التعاطى معها سلبيا من قبل الزوج. فى المقابل قد يحدث العكس حين يصل الرجل لمنتصف العمر، حيث تتناقص قدرته الجنسية والخوف من احتمال العجز فى مجتمعات تنشغل بحرفية العلاقات الجنسية. وراء ما سبق ذكره ثمة مفهوم خاطئ للزواج لدى قطاعات معتبرة من المجتمع، إذ إن كثير من الأزواج يعتقدون بأن الزوجة ليست أكثر من خادمة مهمتها الأعباء المنزلية وتربية النشء وغيرها من الأمور المعيشية. وفى هذا السياق يقول الدكتور أحمد عبد الرحمن أستاذ علم الأخلاق بالجامعات المصرية أن (الثقافة الخاطئة والمشوشة تقف وراء الخلل الكبير الذى أُصيبت به الأسرة؛ إذ لا يملك الشاب المصرى توعية إسلامية جيدة بنظام الأسرة، وكيف تنمو وتتماسك وتعبر الأزمات، لكنه يرغب فى الزواج لمجرد إشباع الرغبة.. فهو لم يتلق تربية عن كيفية معاملة زوجته). الزواج المبكر يعد أحد الأسباب التى تسهم فى ارتفاع معدلات الطلاق فما زال قطاع واسع فى الريف والمناطق المهمشة يعتبر الزواج المبكر سترة للفتاة، وعفة للولد. خلف الفوارق الثقافية وعدم تفهم الاحتياجات النفسية تقف ثقافة الشك والغيرة القاتلة من الأسباب الشائعة التى تدمر الحياة الزوجية، وتؤدى بها إلى الطلاق، فالثقة ركن أساسى من أركان الزواج الناجح، فإذا افتقد الزواج الثقة أصبح على حافة الهاوية. ولأن الغيرة سلوك اجتماعي، فمنها ما هو محمود وما هو مذموم. والغيرة المحمودة هى أن يغار الإنسان من نجاح الآخرين، لكن الغيرة قد تتحول إلى مرض وتصبح غير محمودة، وعندها قد تنقلب الحياة الزوجية رأساً على عقب. وفى هذا السياق يقول د. يوسف مراد فى كتاب “سيكولوجية الجنس”:(يمكن إرجاع جميع حالات الغيرة إلى التفاوت بين الرغبة والواقع، بين النزعة إلى التملك المطلق، وما يهدد هذه النزعة، بين ما يمكن أن نسميه الشراهة الوجدانية، والقدرة على إشباع هذه الشراهة.. والغيرة ليست حتماً ودائماً من مستلزمات الحب). رغم أن ثمة مجهودات متناثرة طوال السنوات التى خلت لمعالجة هذه الظاهرة، فإنها لم تحقق المرجو منها، وأنه لابد من اللجوء إلى تغيير السلوك المجتمعى المحلى، لتوليد الإحساس بضرورة هجر تلك الظاهرة، وأن أى محاولة فى هذا الإطار إذا لم تتكامل مع محيطها من عوامل مجتمعية وثقافية لن تحقق مردوداً ملائماً لعلاج ظاهرة الطلاق. المسارات حول ظاهرة الطلاق تظل معقدة ومتشابكة مادامت بقيت نمطية النظرة للمطلقة، لكن ليس حال المجتمع كله هكذا، فكم من رجل يعشق مطلقة، ربما تركته سنوات بلا عنوان، وكم هو ينتظرها بل يتمنى رضاها. وكم من رجل يعتذر لسنوات عمره التى خلت وحتى القادم منها، فليس له فيها أية أمنيات خاصة فقط “مطلقة”هى كل أحلامه. الطلاق السياسى على الرغم من تصاعد ظاهرة الطلاق حول العالم فإن مصر تعد من الدول التى تأتى فى الصدارة. وإذا كانت أسباب الطلاق ودوافعه التقليدية ظلت أحد الأسباب وراء تنامى الظاهرة فى مصر، فإن السياسة دخلت هى الأخرى على خط أزمة المطلقات فى ظاهرة فريدة ومثيرة. وإذا كانت مصر قد عرفت فى النصف الأول من القرن الماضى ما يطلق عليه الزواج السياسى بين أبناء نخب الحكم وأمراء القصور، فلم تكن بعيدة عن “الطلاق السياسي”، لكنها ظلت محدودة، وربما اقتصرت على بلاط الحكم والنخب السياسية. لكن جرت فى النهر مياه كثيرة، وتحول الطلاق السياسى إلى ظاهرة بامتياز منذ العام 2011مع توتير الأجواء السياسية، وتصاعد حالة الاستقطاب السياسى على خلفية الفشل فى إدارة المشهد بعد مبارك وطوال عام الإخوان، أحد أبرز المسببات التى تقف وراء تنامى ظاهرة المطلقات. فقد شهدت الأسرة المصرية انقسامًا شديدًا من حيث وجهات النظر السياسية منذ إسقاط مبارك فى 11فبراير، وصعود الحركات الثورية والتيارات الإسلامية إلى صدارة المشهد. ففى البيت الواحد ما بين منتم إلى “آسفين يا ريس”وآخر داعم لحركة “ثوار.. أحرار.. هنكمل المشوار”. وفى الأسرة الواحدة ما بين مؤيد لوصفات العمالة والخيانة لميدان التحرير وأبنائه، وآخر يرفع شعار “الجدع جدع والجبان جبان وإحنا نفضل فى الميدان”. لم تكن الخلافات السياسية داخل البيت الواحد هى التى أدت إلى تصاعد حالة الاحتقان المجتمعى التى انتهت بالطلاق فى أحيان كثيرة، بل إن الشعارات والهتافات وحتى النكات الساخرة التى صاحبت الاحتجاجات التى اندلعت فى ميدان التحرير فى 25يناير، كانت هى الأخرى محل خلاف أسرى، وألقت بتبعاتها على طبيعة الحياة الزوجية بين متخاصمين فى الفكر والفكرة السياسية. تفاقم الأزمة السياسية فى مصر بعد 30يونيو وعزل مرسى عن السلطة، وتغيير طبيعة المشهد السياسى لم تكن بدورها بعيدة عن الأحوال الاجتماعية، فعشية ما حدث فى 3يوليو، شهدت بعض الأسر المصرية انقلابا اجتماعيا حادا وغير مسبوق، وما كان من ثنائية مؤيد ورافض ومع وضد إلا إحداث خلل فى تركيبة الأسرة المصرية التى انتهت فى بعض الحالات بالطلاق. صحيح أنه لا توجد إحصائية بشأن المطلقات لأسباب سياسية، وإنما تواتر الحكاوى والأخبار الكاشفة عن حدوث حالات طلاق بشأن خلافات سياسية تحولت إلى ظاهرة. والأرجح أن ثمة دعاة ورجال دين أسهموا فى تعميق هذه الظاهرة، فعلى سبيل المثال خرج مظهر شاهين خطيب مسجد عمر مكرم والإعلامى فى يناير 2014بفتوى شاذة أجاز فيها تطليق المرأة الإخوانية لأنها “قنبلة موقوتة”تسفك الدماء وتحرض على مؤسسات الدولة، ومن ثم يصبح تطليقها جائزاً شرعاً لحماية الأسرة. صحيح أن دار الإفتاء استنكرت الفتوى وأطلقت بيانًا تؤكد فيه أن تطليق الرجل زوجته لانتمائها لجماعة أو حزب سياسى هو رأى شخصي، وليس فتوى شرعية، وشابه نوع من المزايدة بالمتغيرات السياسية، وليس أسباب الطلاق الواردة فى كتب الشريعة، خصوصا مع التحذير الشديد من التطليق بغير موجب. غير أن غياب المؤسسات الدينية عن المشهد واقتصار دورها على رد الفعل فقد، أسهم بشكل ما فى تنامى الظاهرة، وكان بارزاً هنا، ضبط مباحث كفر الدوار فى أكتوبر 2013لمواطن يعمل بشركة مياه البحيرة بعد اتهامه بالشروع فى قتل زوجته لمجرد سماعها أغنية “تسلم الأيادي”. لم يكن ما سبق نماذج وحيدة، فقل ما شئت عن حالات طلاق وقعت بين أسر لمجرد تأييد الزوجة أو أحد أهلها للسيسى والعكس. المهم أن التفسيرات النفسية والمجتمعية لهذه الظاهرة التى تتصاعد مع تنامى حالة الاحتقان السياسى ليست وحدها تكفى لمعالجة هذه الأزمة. ولعل اتساع البون بين الفرقاء السياسيين وانقسام المجتمع على مذبح الانتماء السياسى والعقائدى دون تقديم بدائل وحلول إيجابية ينذر بكارثة على العلاقات المجتمعية.