كانت أحلام الخديو إسماعيل هي تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا. كان يريدها أن تغرد خارج محيطها الأقل تطورا، في فضاء من التطور والتقدم والتنوير. وكانت أحلامه العظيمة أكبر من قدراته على التخطيط والإدارة لتحويل الحلم إلى واقع. لكن تلك الأحلام وتجسداتها وبعض نجاحاتها الصغيرة والكبيرة في الفن والأدب والسياسة طورت بيئة اجتماعية ونخبة ثقافية ضخمة بحكم ضخامة مصر نفسها. وكانت تلك البيئة قادرة على احتضان مشروعات أدبية وصحفية مصرية وعربية كبيرة. وكانت مصر فضاء فسيحا وحرا أمام الأشقاء العرب بحكم التاريخ والحضارة والحجم وحاضر التطور.
وقد ثبت منذ تأسيس مصر الحديثة قبل أكثر من قرنين من الزمان، أن قدر مصر هو قيادة إقليمها العربي، وأنها عندما تغيب لأي سبب فإن أحدا لا يمكنه ملء الفراغ الذي تتركه إلى أن تعود لتملأ موقعها مرة أخرى. وعندما تحاول دول أخرى القيام بدور القيادة الإقليمية فإنها تقود نفسها والمنطقة إلى كوارث مروعة. وكانت أهم مميزات الحاضنة الاجتماعية والثقافية في مصر أن قيم المواطنة تعلو على الانتماءات الطائفية والمذهبية والقبلية والعرقية. وكان طبيعيا في هذه البيئة أن تجد نجوما في السياسة والفن والأدب ينتمون للديانات المسيحية والإسلامية واليهودية، أو لأعراق وقوميات كردية وأرمنية ويونانية إلى جانب المصريين من أبناء وطنهم الجامع.
وفي بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين) كانت هناك أرواح كبيرة طامحة لتحقيق إنجازات ثقافية وصحفية وتجارية. وكانت الحاضنة الاجتماعية الصغيرة أقل من أن تستوعب أحلام تلك الأرواح الكبيرة. كما كانت الاعتبارات الطائفية تضع قيودا على انطلاق الأحلام الكبيرة إذا جاءت من أبناء طائفة صغيرة. وشد آل تقلا (سليم وبشارة تقلا) الرحال إلى مصر التي تشكل الحاضنة الاجتماعية والثقافية الأكبر والأكثر تطورا في المنطقة. وكانوا جزءا من سياق عام شمل عائلات شامية أخرى مثل آل تكلا الذين أسسوا دار المعارف، وجورجي زيدان الذي أسس دار الهلال.
وهكذا كانت نشأة الأهرام حالة عروبية خالصة، وتعبيرا عمليا بليغا عن حرية العرب في الحركة في فضاء بلدانهم الفسيحة وفي رحابة شعوبها التي تحتضن الرواد والأفذاذ من أبنائها. كما أنها بحكم قدم نشأتها تحولت إلى المؤسسة الحافظة للذاكرة العربية بشأن كل الأحداث الكبرى التي مرت بالعالم العربي على مدار 140 عاما. وربما تكون متابعات الأهرام للثورات المتتالية للشعب الجزائري وللثورة العربية الكبرى ولاغتصاب فلسطين وللحربين العالميتين من أهم المتابعات التاريخية للأهرام للقضايا العربية. ولسنوات طويلة كان أرشيف الصور والموضوعات الذي تملكه الأهرام هو المصدر لكل الصحف العربية الأحدث منها، سواء بصورة مشروعة وبموافقة الأهرام، أو من خلال تصوير أو سطو البعض بصورة غير مشروعة على جزء من الذاكرة الفريدة التي تملكها الأهرام.
وعلى مدار تاريخها الضارب في عمق الزمن لمائة وأربعين عاما، ظلت الأهرام منارة حقيقية للتنوير والوحدة الوطنية حتى لو تباينت توجهاتها بالنسبة لباقي القضايا السياسية والاقتصادية. وفي سياق القيم التنويرية شغلت الصحفيات والقيادات الإدارية النسائية مواقع مرموقة في المؤسسة كنجمات لها على مدار تاريخها، تعبيرا عن عمق النزعة التنويرية وأصالتها. وعلى رأس ثلاثة من إصدارات الأهرام تتربع ثلاث سيدات في الوقت الراهن وحققن أداء شديد التميز بين كل إصدارات الأهرام، وتتولى الرابعة قيادة صندوق العاملين بالأهرام بكفاءة عالية. كما تمكنت من جذب أعلام الفكر والأدب والفلسفة والسياسة والاقتصاد لتكون منبرا لهم للتواصل مع النخبة والشعب. واتسع صدرها لمختلف الآراء والمدارس الفكرية فاحتضنت مفكري اليمين واليسار لتعطي للقارئ الحق في المعرفة والفرز والاختيار. وعلى تلك القواعد حازت أفضل وأقوى صفحات الرأي في الصحافة المصرية والعربية. ويكفي الأهرام أن قائمة كتابها ضمت نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وطه حسين، وزكي نجيب محمود، ويونان لبيب رزق، وسمير أمين، وجلال أمين، وأحمد بهاء الدين، وتوفيق الحكيم، وخليل مطران، وحامد عمار، وصلاح طاهر، وعبد الرحمن الأبنودي، وعبد الرحمن الشرقاوي، وعبد الرحمن بدوي، وفؤاد زكريا، ومحمود درويش، ومعين بسيسو، ولطفي الخولي، ومي زيادة، ونعمات أحمد فؤاد، وكريم مروة، وبطرس غالي، وألفريد فرج، والطيب صالح، وإدوارد سعيد، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والبابا شنودة، وعبد العزيز المقالح، وعلي الراعي وغيرهم من الرموز الثقافية الكبرى في مصر والوطن العربي. وإدراكا منها لأهمية العلم في تقديم النصح السياسي والاقتصادي للدولة والنخبة والمجتمع، أسست الأهرام مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية الذي يحتل مكانة عالمية متقدمة (تتراوح مرتبة المركز بين 21 إلى 51 عالميا، وهو يسبق أكثر من 500 مركز بحثي أمريكي وأوروبي)، فضلا عن ريادته وتفوقه الإقليمي المطلق بإصداراته العلمية المتنوعة وبتأثير باحثيه وخبرائه في الرأي العام المصري والعربي، وتأثيرهم العالمي من خلال مشاركاتهم في الملتقيات الدولية وإسهاماتهم بالآراء في الإعلام الدولي. ولم يقتصر الأمر على مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، فهناك مركز الدراسات الاجتماعية والتاريخية. كما أمسكت الأهرام بموقع الريادة في مجال الكمبيوتر والميكروفيلم والتدريب وكانت الرائدة والمبادرة مصريا وعربيا في هذا الشأن. وتزهو الأهرام بمركز "أماك" للكومبيوتر، ومركز الميكروفيلم، ومعهد الأهرام الإقليمي للتدريب. أما الآلة العملاقة للطباعة، التي تملكها الأهرام فإنها تطبع الجانب الأكبر من الصحف والمجلات التي تطبع في مصر، وتملك كوادر بشرية ضمن الأكثر خبرة وعلما في مصر. وكذلك الأمر بالنسبة لجهاز التوزيع الذي ينشر أذرعته لتمتد بالعلم والمعرفة والفن والتنوير إلى كل ربوع مصر. كما تطبع جريدة الأهرام وتوزع في العديد من البلدان. أما شبكة مراسلي ومكاتب الأهرام فتشمل كل محافظات مصر، وتمتد من الصين شرقا إلى الولاياتالمتحدة غربا، مرورا بألمانيا وروسيا واليونان وفرنسا وبريطانيا والإمارات والسعودية والكويت ولبنان وليبيا والمغرب وغيرها من الدول. وإيمانا منها بقيم الجمال والتنوير تمكنت الأهرام من تكوين ثروة فنية هائلة من الأعمال الأصلية لأعظم الفنانين المصريين، وهي ثروة فنية لا تقدر بثمن تزهو بها الأهرام وتنقلها وتزيد عليها من جيل لجيل كرصيد للرقي والتذوق الفني والجمالي. ورغم عظمة من مروا على قيادة الأهرام إداريا وتحريريا، فإن الأب المؤسس سليم تقلا يحظى بمكانة المنشئ، أما الأستاذ محمد حسنين هيكل، فيظل هو الرمز الأعظم لمؤسسة الأهرام. وهناك إجماع بين محبيه وكارهيه مصريا وعربيا ودوليا على مكانته الاستثنائية في تاريخ الصحافة العالمية والعربية والمصرية. وإذا كانت مؤسسة الأهرام هي كبرى المؤسسات الصحفية القومية المملوكة للدولة، فإننا نسعى بدأب كي تكون صوتا حقيقيا للشعب والدولة، وأن ترتسم على صفحاتها ومواقعها وبواباتها الإلكترونية خريطة الوطن والتيارات السياسية والثقافية والفنية السلمية التي تؤمن بهذا الوطن الواحد والدولة القائمة على المواطنة. كما نسعى لتعميق القيم الحاكمة ل «الأهرام» وهي الحقيقة والعلم والحرية والتنمية والنزاهة والعدالة، وكلها تستهدف تحقيق مصلحة ورقي ورفعة الوطن.