سهير عبد الحميد 24 من إبريل..أنظار العالم تتجه إلى تلك الدولة صغيرة الحجم عريقة التاريخ والجغرافيا..إنها احتفالات إحياء ذكرى الإبادة العرقية التى نالت من نحو مليون ونصف المليون أرمنى، عبر ثلاث موجات من المذابح، بدأت أواخر القرن التاسع عشر، واستمرت حتى الربع الأول من القرن العشرين تقريبا. من هذه المذابح فر من فر إلى بلاد الشام، وإلى البلدان العربية، لكن مصر كانت صاحبة النصيب الأكبر خصوصا أنها كانت تضم بين أحشائها جالية أرمينية عريقة يؤرخ لها المؤرخون ببداية العصر الإسلامى فى مصر. حيث كان الأرمن جزءاً من بلاط الحاكم وحاشيته بفضل براعتهم فى شئون المال والسياسة. ثم كانوا هم الدائرة الأهم فى بلاط محمد على باشا، صاحب الفضل فى بناء مصر الحديثة، وكان الأرمن الشريك الأهم فى تجربة النهضة، ساعدتهم على ذلك منحة إلهية يمكننا أن نطلق عليها ذلك المصطلح العبقري الذى أطلقه المفكر الراحل سليمان فياض، حين وصف المصري القديم بأنه امتلك (ذكاء اليدين) فأبدع.كذلك حال الأرمن حيث امتلكوا ذلك الذكاء الذي جعلهم يتقنون كل ما يمكن لليد أن تبدعه من حرف وفنون يدوية.. عاش الأرمن فى مصر وتمصروا وصاروا جزءا من النسيج المصرى يعبرون دائما عن أنفسهم بأنهم جزيرة فى المحيط المصرى، وإن أرمينيا هى الدولة التي أنجبتهم بينما مصر هى الأم التى تولت التربية والتنشئة. هم أقدم جالية أجنبية وطأت أرض مصر مع الفاطميين الذين شهد عصرهم وزراء الأرمن العظماء، بدءا من بدر الدين الجمالى، وفى العصر الأيوبى برزت منهم الملكة شجر الدر الجارية الأرمينية التى نجحت فى حكم مصر. هم أهل الرأى والمشورة كما وصفهم الجبرتى، فى ظل تجربة محمد على، بناء مصر الحديثة، فأدخلوا زراعة القطن طويل التيلة، وأشجار الماندارين، التى مازالت تعرف باسم من استجلبها يوسف أفندى الأرمينى «اليوسفى». منهم جاء نوبار باشا، أول رئيس وزراء لمصر، ومنهم نظريت كالوسديان، مترجم زكريا محيى الدين، والذى ساند الفدائيين فى منطقة القناة، ومنهم صاروخان، صاروخ السخرية اللاذعة ومبدع الكاريكاتير السياسى، ومنهم كابورك يعقوبيان أخطر جاسوس لدى مصر قبل 1967. ومنهم فنانات أثرت الحياة الفنية المصرية، فى مقدمتهن الطفلة المعجزة فيروز، والفنانة نيللى. إنهم الأرمن الذين لا يعتبرون أنفسهم جالية ولا أقلية بل مصريون من أصل أرمنى، فمصر بالنسبة لهم الأم التى لم تنجب. مصر التى احتضنتهم بعد أن فروا من المذابح العثمانية وعاشوا بها عبر سنوات. أعدادهم الآن حوالى سبعة آلاف نسمة موزعين على القاهرةوالإسكندرية. وينبغى الإشارة إلى أن العدد فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين كان نحو 40 ألف نسمة ولأسباب اقتصادية واجتماعية هاجر كثير منهم إلى أوروبا وكندا وأرمينية وأستراليا. وبرغم هويتهم الخاصة تكيف الأرمن مع المنظومة المصرية. فقد شاركت النخبة الأرمينية الإدارية خلال القرن التاسع عشر فى إدارة العلاقات الخارجية المصرية ومنهم: بوغوص بك يوسفيان، أرتين بك تشراكيان، إسطفان بك دميرجيان ونوبار باشا، وديكران باشا. وأول وزير لخارجية مصر هو بوغوص بك " 1826 – 1844 " ونوبار باشا أول رئيس لوزراء مصر "1878 – 1879". وهناك يعقوب آرتين الذى لقب بالأستاذ الكبير، نظرا لدوره فى إرساء قواعد وزارة التربية والتعليم، وهناك شارع فى مصر الجديدة يحمل اسمه. بالإضافة إلى بوغوص بن نوبار باشا الذى ساعد البارون إمبان فى بناء حى مصر الجديدة. كل هذا كان دليلاً على عدم انعزالية الأرمن عن بقية الشعب المصرى. إضافة إلى هذا شارك الأرمن كحرفيين ومهنيين وتجار فى الحياة المصرية. ومعظم الأرمن خصوصا الذين ولدوا فى مصر يعرفون اللغة العربية جيدا. ولا يوجد حى خاص للأرمن، فهم يعيشون جنبا إلى جنب مع المصريين سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين. للأرمن الأرثوذكس كنيستان، إحداهما فى القاهرة وهى الكائنة فى شارع رمسيس والأخرى فى الإسكندرية. وكانت هناك كنيسة ثالثة فى منطقة الزيتون، وقد تم إهداؤها للأقباط هى كنيسة البروتسانت حيث لا تتبع هذه الكنيسة من الأرمن فى مصر حاليا سوى عائلة واحدة. أما الأرمن الكاثوليك فلهم كنيسة فى منطقة وسط البلد وأخرى فى مصر الجديدة. وتتمركز عائلات الأرمن فى القاهرةوالإسكندرية بالقرب من أعمال الاقتصاد والتجارة، والمعروف أن معظم اللاجئين الأرمن نزلوا بورسعيد ثم اتجهوا إلى الإسكندرية. ومازالت فى بورسعيد حتى الآن مقابر اللاجئين الأرمن. من الناحية الدينية يحتفل الأرمن بعيد الميلاد المجيد، وعيد القيامة، وبعض أعياد القديسين الأرمن. ومن الناحية القومية يوجد عيد "لافارتانانتس" وهو عيد التمسك بالهوية الأرمينية وعيد استقلال فى 21 سبتمبر، وعيد شهداء 24 إبريل، وهو خاص بضحايا الإبادة الأرمينية التى ارتكبتها تركيا العثمانية ضد الأرمن بدءا من 24 إبريل 1915. وفى العام المقبل ستمر الذكرى المئوية على هلاك وتشتيت مليون ونصف المليون أرمنى. قامت المدارس الأرمينية بدور مهم فى حفظ الهوية الأرمينية من خلال تدريس اللغة الأرمنية وآدابها وتاريخها. وحاليا توجد بالقاهرة مدرسة "كالوسديان – نوباريان" وبالإسكندرية بوغوصيان. هذا بخلاف النوادى الرياضية والاجتماعية والثقافية التى تلعب دورا مهما فى تحقيق التواصل بين الأجيال وتنمية الحس الأرمنى، وكذلك الصحف ومنها: "آ ريف" وتعنى الشمس، "وهوسابير" وتعنى باعث الأمل و"تشاهاجير" حامل الشعلة، ولاشك أن ميل الأرمن إلى الزواج فيما بينهم أدى إلى استمرارية الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم. كما توجد فرقة للكورال والأغانى الشعبية الأرمينية.