عزمى عبد الوهاب في ظل أجواء غرائبية وأسطورية يتحرك شخوص الروائي المصري «أسامة حبشي» فعبر رواياته الخمس يبرهن على أن وراء هذه الأعمال صانعا ماهرا، يمتلك أدوات حرفته، ولا يترك نفسه للبوح الذاتي، شأن كثيرين، فهو مختبئ خلف كل كلمة في أعماله، يجمع الخيوط التي تربط بين الشخصيات، ويصنع مصائر الجميع على عينيه، لنجد أنفسنا أمام منظومة سردية ولغوية تقول: «هنا كاتب مختلف ومتميز». أصدر «حبشي» رواياته «خفة العمى – سرير الرمان – حجر الخلفة – مسيح بلا توراة – موسم الفراشات الحزين» وهنا حوار معه. أصدرت حتى الآن خمس روايات.. لماذا تخلو أجندتك الإبداعية من كتابة القصة القصيرة؟ القصة القصيرة ترعبنى، بالإضافة إلى أن المجموعة القصصية إن لم ترتبط ببعضها البعض لا أتحمس لها، وحتى الآن أحاول من وقت لآخر دخول معترك الكتابة القصصية، عبر محاولات قليلة جدا، ولا أجد نفسي متحمسا لتجميع ما كتبته، من أجل إصدار مجموعة قصصية، والحقيقة أن ما كتبته بالنسبة لى كان بمثابة تمارين يومية على الكتابة القصصية، فالقصة القصيرة بالنسبة لى رواية مختصرة، وبعض من رواياتي مثل «سرير الرمان» بدأت من فكرة قصة قصيرة، ثم تطورت إلى أن صدرت كرواية، وهكذا لكن التفكير حتى فى الانتهاء أو الإصرار على كتابة مجموعة قصصية لم وأعتقد لن يخطر ببالى على الأقل حتى الآن. روايتك الأولى «خفة العمى» لم تخل من تأثيرات سينمائية..هل لذلك علاقة بدراستك فى المعهد العالى للسينما أو بدراستك لها فى إيطاليا؟ «خفة العمى» هى بالأصل سيناريو فيلم، وقررت أن أحولها إلى رواية، ولا شك أن كتابة السيناريو أفادتنى روائيا، فكتابة السيناريو تتطلب أن تعرف عما ستتكلم، ثم تأتى مرحلة كيف تقدم فكرتك على الورق، من خلال شخوص لها حياتها وانفعالاتها المختلفة، وأذكر أن أول درس لى بمعهد فيللينى كان تلخيص فيلم فى سطرين، وكان وقتها فيلم «البرتقالة الآلية» لكوبريك، فتعلمت أن الحرف إن لم يكن له موضع مهم لا يكتب، وأن الكتابة للأدب أو السينما لابد أن تصاحبها قراءة فى الفلسفة وعلم النفس تحديدا قبل القراءة بشكل عام، فليس من المصادفة أن الدروس الأولى لتعلم السينما تعتمد على كيفية قراءة الشخصية نفسيا قبل أى شيء، وبشكل عام أى كاتب سيناريو أو مخرج يستطيع كتابة الرواية وليس العكس،وعندنا المثل الأعلى بازولينى الذي كتب السيناريو والشعر والرواية وتعد روايته «شباب حياة « من أهم الروايات الإيطالية، فالسينما والرواية وجهان لعملة واحدة من حيث روح الكتابة وابتكار الفكرة والشخوص. أيضا فى تلك الروايات بدت تأثيرات بكاتب مثل كونديرا وغيره... ألم تكن لديك تأثيرات من كتاب عرب؟ مسألة التأثيرات تعتمد على ميل الكاتب لثقافة دون أخرى، وقد تأثرت كثيرا بدى إتش لورانس ودستويفسكىوكونديرا وهيسه، وبأدب أمريكا اللاتينية، وألف ليلة وليلة، لكن من بين الكتاب العرب كان الأقرب إلى قلبي وفكرى الطيب صالح والطاهر وطار ومحمود درويش والأبنودى، وأنا أعتبر نفسي مقصرا تجاه القراءة للكتاب العرب، بحكم الميل لكتابات أخرى، بالطبع تشكلت الذاكرة منذ البداية على يد نجيب محفوظ والشعر الجاهلي، ولكن منذ بداية السفر خارج مصر وجدتنى أقرأ «كالفينو» وأتمنى لو أكون مثله فى طريقة الكتابة، واختراع الفكرة، وروايته «مدن لا مرئية» و«السيد بالومار» تأثرت بهما كثيرا في كل أعمالى..وكذلك رواية الأرض لساراماجو. لا تزال تحافظ على خيط فانتازي فى أعمالك الروائية ..ما أهمية ذلك بالنسبة لك؟ تربيت على الحواديت، وكان والدى أميا يحفظ السيرة الهلالية عن ظهر قلب وبعض حكايات ألف ليلة وليلة، وفى الحواديت هناك الحذف والزيادة سواء كان الراوي دراسا أم فطريا، وهذا ما أسميه الخيال الشخصي، هذا الخيال هو الفانتازيا، من وجهة نظر البعض، وأية حكاية تنقصها الفانتازيا لابد أن تكتب مرة أخرى، وتراثنا الشعبى مليء بهذا، فالفانتازيا هى روح العمل، وهى التى تثري النص. كيف ترى اللغة وعلاقتها بالعمل الإبداعى خصوصا أنك تمنحها مساحة كبيرة من الحضور؟ لنتذكر وديع سعادة أو محمود درويش أو خوان رولفو، هل يمكن تخيل حضورا آخر للغة عندهم وكيف ستكون أعمالهم بلغة أخرى؟ أميل للغة القريبة من القلب لا من العقل أثناء الكتابة، لا أقصد الشعرية، لكن اللغة التى تسحب القارئ تجاه موضوعك وفكرتك بأريحية وتقبل وتناغم، اللغة ليست برواز الشخصية، لكنها من أهم المفاتيح للدخول والتوغل فيها، اللغة بالنسبة لي كالمرأة الجميلة لابد أن تقترب من أنوثتها دون افتعال، فأنا أكره الجمل التقريرية الحادة. فى روايتك «سرير الرمان» هناك إحالات على أسماء حقيقية فى الواقع الثقافى ..ألم تخف من تحول الرواية إلى عمل وثائقى فى جانب منها؟ أسماء الشخوص بشكل عام فى أعمالى لا أحب تسميتها، لكن فى «سرير الرمان» كانت هناك أسماء - هشام قشطة صاحب مجلة الكتابة الأخرى المستقلة وعز الدين شكرى الروائي والدبلوماسي وغيرهما - لكن ذكرهم جاءعلى سبيل التحية والتقدير، بالإضافة إلى أن الفانتازيا فى العمل ككل تحميه من الوقوع فى فخ الوثائقية، فمثلا شخصيات محفوظ حقيقية لكنه غلفها بالصبغة الروائية، الرواية أقرب إلى السيرة الذاتية مع إضفاء أجواء أسطورية عليها، فكان من البديهى ذكر بعض المحطات الرئيسية فى حياتى، وبالضرورة جاء ذكر تلك الشخصيات. كيف ترى تعاطى النقد مع أعمالك؟ مسألة النقد معقدة أساسا، هناك أزمة فى النقد عندنا، وأستثنى المغرب العربي طبعا، نحن نعانى غياب عبد القادر القط وفاروق عبد القادر وغيرهما ممن كانوا يصنعون حالة التوازن، هناك جيل من النقاد الجدد فى طور التشكل، لكن لا يزال أمامنا أمامناوقت طويل، بالنسبة لأعمالى لا أتوقف أمام مسألة: هل قوبلت بشكل نقدى يرضيني أم لا؟ أنا أؤمن بأن الكاتب لابد أن يكتب ولا ينتظر قطار النقاد. أصدرت خمس روايات فى زمن وجيز هل يأتي هذا على حساب الجودة؟ هذا التصور جاء من متابعة تاريخ صدور الروايات، لكن هذه الروايات كتبت على فترات زمنية طويلة، نعم أصدرتها بصورة متعاقبة، ولايعنىهذا أنها كتبت فى فترة وجيزة، نعم أنا سريع فى مسألة الكتابة لكن اختمار الفكرة فى الرأس، قبل الكتابة، يستغرق وقتا طويلا..بدليل اختلاف الموضوعات والشخوص والتقنية من رواية لأخرى. على عكس كثيرين ممن يكتبون الرواية لازلت تعتمد على أجواء أسطورية أنت صانعها كما بدا فى «حجر الخلفة».. ألا يصنع هذا اغترابا بينك وبين القارئ؟ أنت تكتب وتترك فيما بعد ظهور العمل للزمن وليس للقارئ فقط، والأجواء الأسطورية في «حجر الخلفة» كانت ضرورية، فأنت تريد أن تكتب تاريخ الأرض وبداية الخلق - من وجهة نظر فرعونية - وتريد كتابة ذلك فى عدد قليل من الصفحات، والأسطورية هى التى تساعدك على اختصار الزمن، كما أنني أسعى للوصول إلى كتابة عمل يحمل صفة الخلود كهاملت شكسبير أو كوميديا دانتي، ولو لم تكن هناك أجواء أسطورية في هذين العملين ما ظلا من علامات الأدب إلى الآن، «حجر الخلفة» ولدت من هذا الحلم، من حلم النساء اللائي يبحثن عن الخلفة من خلال حجر، وهى رواية كانت بالنسبة لى محاولة لكتابة تأريخ جديد للفراعنة وللشخصية المصرية بشكل خاص، وبشكل عام تأريخ لعلاقة آدم بحواء من خلال ألف ونون.. «حجر الخلفة» مجرد حلم بكتابة الوجود عبر الفراعنة. تركز على التاريخ فى أعمالك أيضا..وهذا ما اتضح فى روايتيك «موسم الفراشات الحزين» و»مسيح بلا توراة»..فهل كان ذلك متعمدا؟ «موسم الفراشات الحزين» تتحدث عن فلسطين فيما قبل 1948 حتى الانتفاضة الأولى، و»مسيح بلا توراة» عن محمد البوعزيزى شرارة الثورة التونسية الأولى، وكتابة التاريخ حلم بالنسبة لى، لكن تظل إشكالية كيفية تقديم هذا التاريخ هى الأهم بالنسبة لى، الحديث عن التاريخ في شكل وقائع لا أفضله، من هنا جاء اللبس فى «موسم الفراشات الحزين» فقد اعتبرها البعض سيرة ذاتية لمحمود درويش، و«مسيح بلا توراة» كان مجرد اسم للعمل، وليس سيرة ذاتية للبوعزيزى، برغم وجود بعض الأحداث التى تشير إليه، وبمناسبة التاريخ فالرواية التى أعد لها الآن تتحدث عن الخمسين سنة الأولى فى حياة أمريكا، عقب اكتشاف كولومبس لها، وعن الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين وإبادتهم لحضارة الهنود الحمر، وكتابة التاريخ كما فعله أمين معلوف مثلا أو الطاهر وطار فى «الشمعة والدهاليز» هى ما تشدنى وهى ما أحاول تقديمه. إلى أى مدى ترتبط الأسطورة داخل العملب الواقع الذى نحياه اليوم؟ ميزة النص الأدبى أنه يتسع لكل القراءات بما فيها الإسقاط على الواقع سواء كان سياسيا أم اجتماعيا، ومن هنا أسقط كثيرون العمل على واقع مصرالآن، وأعتقد أن صدور العمل ضمن سلسلة «إبداعات الثورة» هو ما أسهم فى ذلك،وهذا لم يكن واردا فى ذهنى على الإطلاق، أثناء وبعد الكتابة، لكن هذا ما حدث، وقد تأتى قراءات أخرى مغايرة تماما لذلك..ربما. ما الفكرة التي أردت تبليغها من خلال روايتك حجر الخلفة؟ حضارة الألفيتين الأولى والثانية، أضرت بالبشر، وأنتجت أسوأ ما فيهم،حيث المجتمع الاستهلاكى الرأسمالى القائم على غزو الآخر بشكل مقنع وخبيث وقائم على قمع الحريات وضياع العدالة الاجتماعية. هل يتقبل القارئ المصرى أو العربى هذه النوعيةمن الأعمال؟ لا أنكر أنني كنت قلقا من رد الفعل تجاه هذا العمل،لكن بعد ماوجدته من إقبال الرواية أستطيع القول إن تلك الأعمال لها جمهورها، ولا يمكن لها الآن الكثير من القراء يرحب بالأعمال التى يُعمل معها الفكر أثناء القراءة، والمتلقى- ليس كما نعتقد- مجرد قارئ فحسب لكنه بشكل أو بآخرمشارك فى العمل كالناقد،وباختصار يمكن القول إن القارئ هو مبدع بشكل موازٍ للنص.