أشرف بدر ما أحوجنا فى الشهر الكريم الذى يهل علينا ببركاته وفيوضاته إلى هدنة روحانية نقية، بعيدة عن لوث السياسة اللعينة، وزحمة أخبار الفساد والعمالة، والكيانات المسلّحة التى تحارب باسم الدين لتنتصر للمجهول، والمناكفات الحزبية التى تشغل الشعوب عن دينها وهمومها وأحلامها. ما أحوجنا إلى هدنة من مكايدات وأطماع المستعمرين الجدد ومناصريهم ومنفذى أجنداتهم من بنى جلدتنا وتغذيتهم للفتن الطائفية والقبلية العمياء فى العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ولبنان . ما أحوجنا إلى هدنة للمصالحة مع النفس والغير ممن لم تلوث أيديهم بدم أبرياء راحوا ضحية عنفهم وتحريضهم لفئات جاهلة على المزيد من سفك الدماء، ومباركاتهم لكلّ أشكال الإرهاب الذى يمارس ضد إرادة شعب اختار طريقه وقائده بنفسه. ما أحوجنا فى رمضان إلى هدنة لنطبق فيها قول خاتم الأنام محمد (ص) «يا باغى الخير أقبل، ويا باغى الشر أمسك» وقوله أيضا (ص) وهو يبشر أصحابه بمقدمه: «هذا شهرُ رمضان قد جاءكم، تفتح فيه أبوب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتسلسل فيه الشياطين». ما أحوجنا إلى روحانية قراءة وتدبر كتاب الله المجيد، فقد حُكِى أن الصحابة رضوان الله عليهم تذاكروا القرآن، فقال أبو بكر الصديق: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى من قوله تبارك وتعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»، فإنه لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران. وقال عمر بن الخطاب: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى: «حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيم، غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ»، ففيها قدم الله غفران الذنوب على قبول التوبة، وفى هذا بشارة للمؤمنين. وقال عثمان بن عفان: وقفت كثيرا أمام قوله تعالى: «نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، وقال على بن أبى طالب : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». ما أحوجنا إلى التعلم من سير السلف الصالح فى مقايضة دنياهم بآخرتهم، فروى أن الرسول (ص) كان يجلس وسط أصحابه عندما دخل شاب يتيم يشكو إليه قائلا: «يا رسول الله، كنت أقوم بعمل سور حول بستانى فقطعت طريق البناء نخلة هى لجارى طلبت منه أن يتركها لى لكى يستقيم السور، فرفض، طلبت منه أن يبيعنى إياها فرفض. فطلب الرسول أن يأتوه بالجار فجاءوا به، فسأله الرسول أن يترك له النخلة أو يبيعها له، فرفض الرجل!! فأعاد الرسول قوله: بع له النخلة ولك نخلة فى الجنة يسير الراكب فى ظلها مائة عام.. فرفض الرجل! فتدخل أحد الصحابة ويدعى «أبا الدحداح»، وقال: إن اشتريتُ تلك النخلة وتركتها للشاب، ألى نخلة فى الجنة يا رسول الله ؟ فأجاب الرسول: نعم . فقال أبو الدحداح للرجل أتعرف بستانى يا هذا؟ فقال الرجل: نعم، فمن فى المدينة لا يعرف بستان أبى الدحداح ذا الستمائة نخلة، والقصر المنيف، والبئر العذبة، والسور الشاهق حوله. فقال أبو الدحداح: بعنى نخلتك مقابل بستانى وقصرى وبئرى وحائطى، فوافق الرجل، وأعطى أبو الدحداح النخلة للشاب اليتيم . فقال الرسول: «كم من عذق رداح فى الجنة لأبى الدحداح وكررها عدة مرات » و«العذق الرداح » هى النخيل المثقلة من كثرة التمر عليها، فقال الصحابة لقد رد الله بكرمه على «كرم » أبى الدحداح بأن جعل له فى الجنة بساتين من نخيل عجزنا على عدها من كثرة ما قال عنها الرسول. وعندما عاد أبو الدحداح إلى امرأته دعاها إلى خارج المنزل وقال لها: لقد بعت البستان والقصر والبئر والحائط، فتهللت، وسألت عن الثمن، فقال لها: «لقد بعتها بنخلة فى الجنة يسير الراكب فى ظلها مائة عام»، فردت عليه فرحة وقالت: «ربح البيع أبا الدحداح – ربح البيع». ما أحوجنا أيضا إلى التسامح بيننا، وعدم تسلط وظلم المسئولين، فقد حُكِيَ أنّه كانَ رجل مِن بنى إسرائيل يعمل شرطيا فجاء يوما إلى شاطئ البحر فرأى صيادا قَد صادَ سَمكةً فسَأله أن يُعطِيَه إيّاهَا فأَبى فضَرب رأسَه بسوطه وأخذها منه قَهرًا ومَضَى بها. وقالَ الشرطى: وبينما أنا ماش بها حاملها، إذ عضت السمكة على إبهامى، فورِم وانتفخ، ثم انتفخت فيه عيُون مِن آثار أنياب هذِه السمكة فذهَبت إلى طبيب فطلب قطع إبهامَى حتى لا أهلك ففعلت، واستمر الأَلم والوجع فقيل لى اقطَع كَفَّكَ فقَطَعتها، وانتشر الألم إلى الساعد فقيل لي: اقطعها من المرفَق، فقطعتها فانتشر الأَلم إلى العضد وكان عنيفا. فقيل لى: اقطَع يدك مِن كتفك وإلا سرى الألم إلى جسدك كلِّه فقطَعتُها ... فقال لى أحد الصالحين: لو كنتَ رجَعتَ فى أولِ ما أصابك الألم إلى صاحبِ السّمكة فاستحلَلت منه واستَرضيته ما قَطعتَ من أعضائك عضوًا، فاذهَب إليهِ الآن واطلُب رضاه قبل أنْ يَصلَ الألم إلى بدنك كله. فذهبت إلى هذا الرجل وقبلت قدَمَيهِ، وقلت له: سألتك بالله أن تعفو عَنى.. فقال لى من أنت؟ فقلت أنَا الذى أخَذت مِنكَ السمكة غصبا، وذَكرتُ له ما جَرى علىَّ وأَرَيتُه يدى كيف قطعت، فبَكى حينَ رآها، وقالَ يا أخِى قَد أحلَلتُكَ منها فقلتُ: يا سيدى سألتك بالله هل كنت دعوت عليَّ لما أخَذتُهَا منك ؟ قال: نَعم قلتُ اللهم هذا يقوى عليّ بقوته على ضَعفِى فأخذ مِنى ما رزقتَنى فأرنى فيهِ قدرتك. اللهم أعنا على الصيام والقيام ، واحفظ جميع جوارحنا من الوقوع فى الآثام.