سيد محمود حسن حدث فريد من نوعه يواكب احتفالات مصر بالذكرى الأربعين لنصر أكتوبر 1973، لكنه لم يجد الاهتمام الذى يناسب أهميته، حيث نشرت دار الوثائق القومية هذا الأسبوع أول مجموعة وثائقية رسمية ترتبط باستعدادات مصر للحرب ومنذ سنوات يطالب المؤرخون والباحثون بإتاحة وثائق الحرب للنشر والبحث. واللافت للنظر أن هذه المجموعة التى أتاحتها الدار ونشرتها فى كتاب ضخم قدم له وزير الثقافة الدكتور صابر عرب، والدكتور عبدالواحد النبوى، مدير الدار، لا تقع ضمن الوثائق العسكرية التى لا تزال تحت الحظر، لكن الدار نجحت أخيرا فى إقناع عدد من الوزارات لتسليم ما لديها من مكاتبات ووثائق رسمية تخص استعدادات مصر للحرب، وهى أوراق ومكاتبات تعطى علامات واضحة على طابع الحياة اليومية فى تلك الفترة، كما تعكسه المكاتب الرسمية، ومن ثم فهى مادة فريدة من نوعها، نتصور أنها تسهم فى إعادة بناء الكثير من التصورات التى رافقت عملية الحرب وما سبقها من استعدادات خلال سنوات حرب الاستنزاف التى تعرضت لعملية تشويه متعمدة من بعض الأصوات المعادية للرئيس الراحل جمال عبدالناصر. تنقسم الوثائق إلى ثلاث مجموعات، الأولى عن عملية الإعداد للحرب والثانية أيام الحرب ذاتها والثالثة الأيام التى أعقبت الانتصار. وكما لوحظ من الأوراق فإن وزارة الاقتصاد كانت أكثر وزارات الدولة تعاونا فى تسليم ما لديها من أوراق لدار الوثائق القومية. ويبدأ الفصل الأول بنشر مجموعة من الأوراق فى مرحلة الإعداد للحرب منذ إعلان حالة الطوارئ عقب نكسة يونيو. وكانت محافظات القناة فى حاجة سريعة لترتيب أوضاعها، وفرض السيطرة الكاملة على جميع أجزائها، خصوصا أنها مجاورة لشبه جزيرة سيناء، وقناة السويس التى وضع العدو يده على الضفة الشرقية لها، فتم تعيين محافظى محافظات القناة ومحافظة الشرقية حكاما عسكريين لها، وخولهم رئيس الجمهورية حق اتخاذ القرارات التى اتحافظ على الأوضاع داخل الأراضى المصرية. مع توفير المواد التموينية وعدم تهريبها، وتنظيم أعمال الدفاع المدنى، وتيسير سبل الحياة لأهالى هذه المحافظات، وكذلك تنظيم الدخول والخروج من المحافظات باعتبارها مناطق وجود للقوات المسلحة وتحركاتها، وتدريباتها استعدادا للمعركة الفاصلة. وتمثل محافظة بورسعيد مكانة مركزية فى هذه الوثائق من حيث رصد إجراءات السيطرة على مداخل المدينة ومخارجها. والمعروف أن الوضع الاقتصادى كان عاملا مهما فى وضع حجر زاوية فى التخطيط للمعركة، وبدا من اللحظة الأولى أن مصر مصرة على الاعتماد على ذاتها أولا فى توفير الموارد المالية الملحة لإعداد القوات المسلحة، إذا فرضت مجموعة من الإجراءات الضريبية منها: فرض ضريبة إضافية للدفاع وبخاصة على الأماكن الترفيهية، تخفيض البدلات والرواتب الإضافية والتعويضات التى تمنح للعاملين المدنيين والعسكريين. ووضعت وزارة الشباب فى عام 1968 بالتعاون مع وزارة الحربية ووزارة الداخلية خطة لتوجيه قدرات الشباب، وبخاصة طلاب وطالبات المدارس الثانوية وشباب الجامعات، لدعم المعركة والمعاونة فى أعمال الدفاع المدنى والمقاومة الشعبية، ورصدت الحكومة لذلك أموالا ومعسكرات للتدريب، وبدا أن المجتمع المصرى كله قوات مسلحة. كما أنشأت الدولة منظمات الدفاع الشعبى فى المحافظات عن طريق التطوع بدون أجر، للمعاونة فى حماية المنشآت الحيوية للدولة والدفاع المدنى وفق احتياجات كل محافظة وتشرف على هذه المنظمات الدولة ممثلة فى السلطات المحلية فى كل محافظة بدءا من المحافظ وممثلى وزارة الشباب والوزارات ذات العلاقة مثل الحربية والداخلية والحكم المحلى، على أن يعد لأفراد الدفاع الشعبى تدريب يجعلهم مؤهلين للمهام المنوطة بهم، وأنشئت لهذه المنظمات قيادة خاصة بالدفاع الشعبى بوزارة الحربية حتى يمكن الاستفادة التامة من إمكانات هذه المنظمات لخدمة تأمين داخل البلاد المصرية، وهو ما مثل تفعيلا كبيرا لإمكانات هذه المنظمات عن طريق التدريب الجاد وتنفيذ المهام بانضباط. ولم تكن الحكومة المصرية فى إطار ترتيبها للبيت المصرى أن تترك المضارين من جراء العدوان دون تعويض، لذا صدر قرار جمهورى بتشكيل لجان لحصر الأضرار والخسائر التى وقعت فى النفس والمال, أعطيت للجان حق تقرير معاشات أو إعانات أو قروض لمن أضير بسبب الأعمال الحربية. وأنشأت وزارة الشئون الاجتماعية، إدارة عامة لرعاية أسر المجندين، وتتبعها إدارات خاصة فى كل مديرية من مديريات الشئون الاجتماعية بالمحافظات، لتسيير ومتابعة حصول أسر المجندين على مختلف الخدمات والمساعدات فى المجالين الحكومى والأهلى، على أن تصرف مساعدات لهذه الأسر للذين لا يحصلون على معاش أو مساعدة، طبقا للوائح، وذلك بالتنسيق مع القوات المسلحة، كما تقرر إعفاء أبناء وإخوة المفقودين والغائبين فى العمليات الحربية من شرط المجموع عند القبول بالصفين الأول الإعدادى والثانوى. لقد كانت هذه القرارات فى النواحى المالية والاجتماعية، من عوامل رفع المعنويات لأفراد القوات المسلحة، وكانت رسالة طمأنة لأسرهم، وهى ما تكفلت به الدولة لكل فرد من أفراد القوات المسلحة. وتكشف الأوراق عن آليات الإعداد لحرب الاستنزاف والعمليات الفدائية الاستثنائية التى تقوم بها جميع الأفرع الرئيسية للوقات المسلحة، وحدثت بطولات وبطولات من القوات البرية والبحرية والجوية كمعركة رأس العش وتدمير إيلات، والتصدى للطيران الإسرائيلى، فصدر الكثير من القرارات الجمهورية بمنح الأنواط والأوسمة لكل من قام بأعمال بطولة تسهم فى استرداد ثقة الشعب والقوات المسلحة بقدرتها على خوض معركة المصير. وكان تأمين القوات المسلحة مهمة رئيسية حتى تستطيع أن تؤدى مهامها، لذلك صدرت قرارات وأوامر بمعاقبة كل مقصر فى تأمين وسلامة المنشآت العسكرية ضد التخريب، منها ، ميناء الإسكندرية، والذى يعتبر الميناء الرئيسية لمصر وبه القاعدة البحرية، كما منع ارتداء أى ملابس أو شارات تستخدمها القوات المسلحة. زمن الحرب وفى ذلك الوقت تغير مفهوم إدارة الدولة وإدارة ميزانياتها، وأصبح يطلق على كل ما تقوم به الوزارات، مندرجا تحت عبارة «مشروعات إعداد الدولة للحرب»، ورغم ثقل العبارة على الآذان بما تحمله من معان تحمل الموت بين طياتها، فإنها كانت تحمل الأمل فى تحقيق النصر واسترداد الأرض والكرامة، وقد استمرت الدولة تستخدم هذه العبارة فى إعداد مشروعات الموازنة المالية للدولة حتى تم عقد معاهدة السلام عام 1979. وقد كان يندرج تحت مشروعات إعداد الدولة للحرب ميزانيات وزارات مثل الثقافة والتعليم والأوقاف وغيرها، مما قد يعتبره البعض غير متصل بالإعداد للحرب، فإن قراءة الوثائق - كما يقول النبوى - سوف تضعنا فى أجواء الحرب حتى ولو كنت تتحدث عن ميزانية الأوبرا المصرية، من خلال الوثائق المتصلة بهذا الموضوع ظهر أن الدولة كانت حريصة على تسيير سبل حياة المصريين بتوفير الخدمات الضرورية مثل الكهرباء التى أنشئ منها محطات جديدة، وتم توفير ميزانيات لصيانة المحطات القائمة، وكذلك المدارس والجامعات والطرق ووسائل المواصلات وغير ذلك الكثير. كما كانت الحكومة المصرية حريصة دائما على توفير مخزون إستراتيجى واحتياطى من المواد الغذائية وغير الغذائية التى تحتاجها الدولة فى إدارة شئون المصريين، خصوصا التى يتم استيرادها من الخارج، وهو ما يستلزم توفير عملات أجنبية، وخلال عام 1972/1971 كان المخزون الإستراتيجى لا يقل عن استهلاك شهرين فى المتوسط. وتظهر الأوراق خطة وزارة الصحة فى بناء خدمات الإسعاف لمواجهة الطوارئ على ضرورة وجود 1423 سيارة إسعاف كان موجوداً منها 1168، كذلك دعم السائقين وقطع الغيار، وقد وافق مجلس الوزراء على توفير جزء من مطالب وزارة الصحة فى العام المالى 1972/1971 والجزء الباقى فى العام التالى. ورغم أن وزارة الصحة قد عملت على توفير كوادر الأطباء بمستشفياتها استعدادا للمعركة وأرسلت منهم 600 طبيب للتدريب بالخارج، فإن الوزارة قد عانت نقصا فى عدد الأطباء، فقرر مجلس الوزراء وقف الإعارات لجميع الدول ما عدا السعودية وليبيا وتحديد فترة الإعارة بأربع سنوات والاستعانة بالأطباء المحالين إلى المعاش والمتقاعدين من القوات المسلحة والاستعانة بالأطباء غير الموظفين بوزارة الصحة عن طريق نقابة الأطباء بمكافآت، كما خصص مبالغ لشراء الأدوية من الخارج. العبور مع اقتراب بدء العمليات العسكرية لاسترداد الأرض وضع رئيس الجمهورية نظاما لإدارة أمور البلاد، حيث يشارك بنفسه فى القيادة ومعه محمد حافظ إسماعيل، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، ليبلغ الحكومة تطورات الموقف السياسى والمهندس عبدالله عبدالفتاح، وزير شئون مجلس الوزراء، يمارس منصب نائب رئيس مجلس الوزراء لثقافة والإعلام الدكتور عبدالقادر حاتم عمله فى مجلس الوزراء، ويتولى وزير الشباب د. أحمد كمال أبوالمجد أعمال وزير شئون مجلس الوزراء بالنيابة والسيد إسماعيل فهمى، وزير السياحة أعمال وزير الخارجية بالنيابة، على أن تجتمع يوميا لجنة عمل رئيسية يحضرها نواب رئيس مجلس الوزراء، والسيد محمد حافظ إسماعيل، والدكتور محمد حافظ غانم، أمين الاتحاد الاشتراكى، ووزير الشباب والدكتور أشرف غربال، المستشار الصحفى لرئيس الجمهورية ومدير المخابرات العامة، وحافظ بدوى، رئيس مجلس الشعب مراقب، وتتخذ اللجنة قراراتها يوميا وتحصل على موافقة الرئيس أولا بأول، وأدارت هذه اللجنة أحوال مصر طوال الحرب، وكان مجلس الوزراء يجتمع بين الحين والآخر، فلم يعقد طوال أكتوبر سوى ثلاثة اجتماعات، وقد بدأت لجنة العمل اليومية عملها فى 5 أكتوبر 1973 بوضع قيود على تداول السلع واستهلاك البترول. ومع منتصف يوم السادس من أكتوبر الساعة الثانية ظهرا - على خلاف ما عهدته الجيوش - تبدأ مصر معركة العبور واسترداد سيناء، وتعمل أجهزة الدولة بكل طاقاتها، فتصدر الأوامر بتعطيل الدراسة فى المحافظات القريبة من العمليات العسكرية، على أن يتم تجهيز بعض فصولها لتكون مستشفيات طوارئ تستخدم فى علاج المواطنين، فى حالة قصف العدو التجمعات السكنية، كما عطلت الأسواق ومنع خروج المواد التموينية من نطاق المحافظات إلى غيرها، وفرض حظر التجوال فى بعض المحافظات. ولكى تتم المحافظة على كفاءة مرافق الدولة، التى تخدم المعركة، كلف وزير الإسكان والتشييد شركات المقاولات المصرية، القيام بعمليات الإصلاح الفورى، لكل ما يصيب البنية التحتية، من أضرار على مستوى الجمهورية، كما تم تدعيم شركات المياه والصرف الصحى بمجموعة من مهندسى وزارة الإسكان والتشييد لتقديم الدعم فى مواجهة أى اعتداءات حتى تنتظم الخدمة. ونظمت عمليات استخدام سيارات النقل لتخدم أهداف الدولة فى هذه المرحلة، مثل تنفيذ تعاقدات مع القوات المسلحة أو نقل المواد التموينية والإنتاج الزراعى والصناعى، وصدرت أوامر عسكرية فى بعض المحافظات مثل القليوبية والغربية أباحت الاستيلاء على اللوارى المملوكة للمواطنين لاستخدامها لصالح المجهود الحربى بالإسماعيلية. تدبير موارد الحرب ويبدو مفهوما أن تكون عملية ترتيب الأوضاع الاقتصادية الخطوة الأولى فى صدر التوجه نحو النصر، ومن ثم يمكن فهم أسباب غزارة الوثائق الاقتصادية مقارنة ببقية الوثائق، وإذا كانت غالبية الوثائق تشير إلى إجراءات رسمية اتخذتها الدولة فى مستواها الأعلى، فإن أوراقا أخرى تشير إلى مواقف اتخذها مواطنون عاديون للتبرع للمجهود الحربى برواتبهم، كما تشير إلى ذلك وثيقة تضمنها الكتاب عن تبرعات العاملين بشركة النيل العامة للطرق والكبارى وكانوا فى مهمة رسمية بجمهورية مالى، وهذه الوثيقة تشير من بين ما تشير إلى حضور مصر فى جمهوريات إفريقيا، وهو حضور تقلص فيما بعد، والطريف أن إجمالى المبلغ الذى تبرع به هؤلاء العاملون بلغ ثلاثمائة وثمانية وخمسين جنيها وثمانمائة وسبعين مليما لا غير «من تسعة عاملين»، بما يوازى راتب شهر كامل، وهناك مكاتبة بتبرع مالى آخر من بعض العاملين بوزارة النقل للمجهود الحربى بمبلغ 96.918 جنيه قيمة تبرعات خمسة مهندسين فى إحدى الشركات بما يساوى راتب عشرة أيام من راتب شهر يوليو 1967، وثمة وثائق أخرى مهمة عن ميزانيات سنوات الحرب وخطط خفض الاستثمارات. رفع الروح المعنوية وعلى الرغم من الهزيمة التى تعرض لها الجيش فى يونيو 1967 ، فإن الرئيس جمال عبدالناصر أمر فى أول أكتوبر 1967 بصرف مكافأة ميدان للعاملين بالقوات المسلحة لرفع روحهم المعنوية. وبدا لافتا للنظر من الأوراق المتاحة والمتعلقة بالوضع العسكرى الدور الذى لعبه الفريق أول محمد فوزى، وزير الحربية فى إعادة تأهيل القوات المسلحة من الناحيتين العسكرية والمعنوية، كما تشير الوثائق إلى نوعية التنسيق التى ربطت قيادات الجيش المصرى بقيادات الجيوش العربية فى الجزائر وسوريا، حيث توجد وثيقة بشأن منح نوط الجمهورية العسكرى من الطبقة الأولى للنقيب الجزائرى عبداللاوى عبدالقادر فى أكتوبر 1968، كذلك وثيقة بمنح الضباط العراقيين: طارق محمود جلال، محمد حسن شلاش، نوط الواجب العسكرى. ومن الوثائق المهمة الدالة على حسن إعداد الجيش المصرى وتأهيله للحرب الوثيقة الخاصة بقرار رئيس الجمهورية رقم 1066 لسنة 1970 الخاص بمد الخدمة لعدد من اللواءات الذين لعبوا أدوارا أساسية فى الحرب وفى تاريخ مصر بعد ذلك، ومن بين هؤلاء الفريق الجمسى، واللواء عبدالمنعم واصل، واللواء سعد مأمون، واللواء الليثى ناصف وغيرهم. وعلى الرغم من الطبيعة العسكرية لهذه الوثائق وغيرها، فإن دار الوثائق حصلت عليها من أرشيفات وزارات أخرى، مثل المالية «الخزانة» الاقتصاد والجريدة الرسمية وأرشيف مجلس الوزراء، وتأمل دار الوثائق بحسب رئيسها الدكتور عبدالواحد النبوى فى الحصول على وثائق أخرى من بقية الوزارات التى تحملت عبء الإعداد للحرب، داعيا وزارة الدفاع إلى تجهيز أرشيفها وإتاحة الوثائق التى تقع خارج دوائر الأمن القومى للاطلاع ليتمكن مؤرخو مصر من كتابة تاريخ الجيش فى هذه المرحلة الدقيقة، بحيث يكون الأرشيف المصرى هو المصدر الرئيسى وليس المصدر الثانوى كما هو الوضع الحالى.