صلاح غراب بنبرة صوته الهادئة، ونظرته الثاقبة، ورؤيته العلمية، يحلل د. حسن نافعة، المفكر السياسى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الأحداث التى تمر بها مصر الآن، متجردا من أى انتماء حزبى، لا إلى اليمين، ولا إلى اليسار، وإنما يقف فى منطقة وسط، منفتح على الكل، باسط كفيه للجميع، وهو لا يستنكف أن يعترف بهذا، ولا يُنكره، بل يعتز به ويُظهره.. ليبرالى حتى النخاع، لكن هذا لم يمنعه من أن يوجه إليها - الليبرالية وأصحابها - سهام النقد، ونصائح التقويم..بدا د. حسن نافعة أثناء الحوار متفائلا غير متشائم مما تمر به البلاد من أزمات بين الفَيْنة والأخرى، وما ينزل بها من محن، يراها لا تفت فى عضدها، ولا تُوهن من عزمها، ولا تُضعف من قوتها، موقنا كل اليقين بأن غدا أحسن للمصريين قادم لا شك، ومستقبلا أفضل لمصر آت لا محالة، وريادة لها عائدة لا ريب، ومكانة لها راجعة لا جدال، وموقعا تحتله بين الأمم أفضل لا مراء. كيف ستتعامل جماعة الإخوان مع المحنة التى تواجهها فى الوقت الراهن، وهى الأخطر فى تاريخها؟ أظن أن تفاعلاتها الداخلية ستفضى بها إلى تبنى واحدة من إستراتيجيتين: الأولى تدفعها للمواجهة والعمل على تحقيق الأهداف التى تسعى إليها بكل السبل الممكنة، بما فى ذلك استخدام العنف، والأخرى تجذبها نحو التهدئة والمراجعة والنقد الذاتى، وإعادة صياغة أهدافها القابلة للتحقيق، فى ضوء المعطيات المحلية والإقليمية والدولية المتغيرة. المروجون لإستراتيجية المواجهة يستندون إلى مبررات وحجج عديدة، أهمها: أن الجماعة جربت الوسائل والطرق السلمية، وحصلت على ثقة الشعب فى عدة استفتاءات وانتخابات متتالية، غير أن القوى «غير الإسلامية» التى «لا تريد الحكم بما أنزل الله»، لم ولن تسمح لها باستخدام حقها فى ممارسة السلطة، وتغيير المجتمع وفقا لرؤيتها الخاصة، استنادا إلى إرادة الشعب المعبر عنها فى صناديق الاقتراع. ثانيتها: أن حرمانها من حقها فى ممارسة السلطة التى وصلت إليها بإرادة الشعب تم بقوة السلاح وبالاعتماد على الجيش، وليس على صندوق الاقتراع. ولأن «ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة». فليس هناك من سبيل أخرى لاسترداد السلطة. ثالثتها: أن القبول بالأمر الواقع وتبنى المهادنة والخنوع سيزيدان من عناد وجبروت الطرف الآخر، ولن يؤديا إلا إلى تفتت واضمحلال الجماعة من داخلها. أما المروجون لإستراتيجية المراجعة والنقد الذاتى فيستندون إلى حجج ومبررات مضادة، أهمها: أن المحنة التى تواجه الجماعة حاليا ليست من فعل الطرف «الآخر» وحده، وإنما تسببت فيها أيضا أخطاء عديدة ارتكبتها القيادة الحالية للجماعة، بقصد أو دون قصد، ومن ثم فعليها التحلى بما يكفى من الشجاعة للقيام بعملية نقد ذاتى يساعد على الاستفادة من أخطاء الماضى، وتجنب الوقوع فى أخطاء مماثلة فى المستقبل. أيضا، لن يكون اللجوء إلى العنف فى مصلحة الجماعة هذه المرة، لأن الأوضاع وموازين القوى على الأرض تغيرت واختلت لغير صالح الجماعة، ومن ثم فقد يؤدى إلى محوها من الوجود وطى صفحتها إلى الأبد. كذلك على الجماعة الانتباه إلى أن هناك أطرافا محلية وإقليمية ودولية تسعى إلى الإيقاع بينها وبين الجيش، وافتعال صدام مسلح بينهما، وهو ما قد يؤدى إلى كارثة. ترى إلى أى من هاتين الإستراتيجيتين ستنحاز الجماعة فى نهاية المطاف: إستراتيجية التحدى والمواجهة واستخدام العنف، أم إستراتيجية المراجعة والنقد الذاتى والحوار؟ الواقع أنه ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال، فعقيدة الجماعة وبنيتها التنظيمية والفكرية تدفعان بها فى اتجاه ترجيح كفة المواجهة واللجوء إلى العنف، أما سياساتها ومواقفها فى أوقات الأزمات، والتى يغلب عليها الطابع البراجماتى فى العادة، فسوف تدفع بها نحو التهدئة والحوار..جماعة الإخوان، كما يصورها مؤسسها حسن البنا، هى: «دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية»، و«إسلام الإخوان»، عند مؤسس الجماعة، هو:»عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف». لذا، يبدو واضحا أنها جماعة ولدت لكى تذوب عن المجتمع وتحل محله، بالعمل على «أخونته» تدريجيا، لا أن تشارك فيه وتعمل على تطويره مع الآخرين، وأنها تستهدف الوصول إلى السلطة لاستخدامها كوسيلة لتغيير المجتمع، وفقا لرؤيتها الخاصة، وليس لتداولها سلميا مع الآخرين، استنادا إلى قواعد المنافسة العادلة والشريفة..يسهل تبرير اللجوء إلى العنف فى جماعة يقوم تنظيمها على مبدأ «السمع والطاعة العمياء للقيادة»، وليس على التفكير الحر وممارسة النقد الذاتى، ويتم ضمان الولاء للقيادة الأعلى فى التنظيم الخاص من خلال «البيعة والقسم على مصحف وسيف»، وليس على الاقتناع والتفاعل الحر بين متنافسين متساوين، كما يسهل إضفاء هالة من القداسة على استخدامه وتصويره باعتباره «جهادا فى سبيل الله». ولأن القيادة القطبية الحالية لجماعة الإخوان تبدو متشددة إلى حد التطرف، فمن المرجح أن تميل كفة التفاعلات الجارية الآن لمصلحة إستراتيجية المواجهة، غير أن هذه القيادة يجب أن تدرك أن المواجهة هذه المرة لن تكون مع نظام حكم مستبد وظالم، لكن مع شعب سُرقت ثورته وفى حالة توحد تام مع جيش وطنى لا يمكنه أن يقف متفرجا على جماعة تصر على العبث بأمن مصر الوطنى، نأمل أن يسود العقل والحكمة وأن تشرع الجماعة، بعد أن تهدأ مشاعر الغضب والانفعال، فى ممارسة عملية نقد ذاتى تقودها إلى مراجعة شاملة لأفكارها وسياساتها وبنيتها التنظيمية. هل يمكن أن تقوم جماعة الإخوان المسلمين بمراجعة ونقد ذاتى للاندماج فى المجتمع؟ بدلاً من اعتراف الجماعة بالأخطاء التى ارتكبتها، والقيام بالمراجعات التى تساعدها على تصحيح تلك الأخطاء، وتبنى إستراتيجية تقوم على الحوار والمصالحة، كى تضمن لنفسها موقع ومكانة الشريك الفعال مع الجماعة الوطنية فى صناعة المستقبل، بدلا من موقع المهيمن أو الوصى الوحيد، اختارت الجماعة إستراتيجية مواجهة تقوم على العناصر الآتية: محاولة الإيحاء بأن ما حدث هو مجرد انقلاب عسكرى غير شرعى تم لحساب «فلول النظام السابق»، واستهدف إعادة شبكة مصالحه القديمة إلى موقع السلطة والنفوذ، وأن الأخطاء التى وقعت فيها الجماعة وتعترف ببعضها لا تبرر ما حدث، حشد وتعبئة الأعضاء والأنصار والحلفاء، ودفعهم للخروج إلى الشوارع والميادين فى مظاهرات احتجاجية، لإثبات أن الجماعة لاتزال تتمتع بالشعبية الجماهيرية الأكبر، وأنها لاتزال تحظى بالأغلبية التى تمنحها شرعية الحكم، الإصرار على المطالبة بالإفراج عن الدكتور مرسى، وإعادته إلى السلطة من جديد، باعتباره الرئيس الشرعى للبلاد، استغلال الاحتكاكات المتوقعة أو المحتملة مع أجهزة الأمن أو رجال القوات المسلحة، والتى قد تقع بسبب استفزازات متعمدة أو مشاعر غضب وهياج تنتاب البعض، خصوصا إذا ترتبت عليها إسالة دماء غزيرة، لتقمص دور «الضحية» و«المظلوم»، وإزاحة صورة «الفاشل» أو «المهزوم» التى كانت قد بدأت ترسخ فى أذهان الكثيرين، اعتقاداً منها أنها تستطيع بذلك تغيير الأمر الواقع، واستعادة زمام المبادرة. وتنطوى هذه الإستراتيجية، فى تقديرى، على مخاطر كبيرة ليس فقط على الوطن، ولكن أيضا على الجماعة نفسها، فالاعتقاد بأن بمقدور الجماعة إعادة الدكتور مرسى إلى السلطة من خلال ضغط الشارع ليس سوى وهم كبير لا مكان له إلا فى عقول القيادة الحالية للجماعة، التى فشلت فشلا ذريعا فى انتهاز فرصة أتيحت أمامها، لإعادة الاعتبار للجماعة، وتصحيح تاريخها، والعمل على إعادة دمجها فى الحركة الوطنية كشريك وليس كمهيمن، فالإصرار على تحريك الشارع قد يؤدى إلى مواجهة دموية مع الجيش، وهو ما تسعى إليه قوى عميلة فى الداخل وقوى إقليمية ودولية فى الخارج..ولأن مواجهة كهذه، والتى لن يقف فها الجيش وحيداً، وإنما سيكون مدعوماً بالكامل من جانب الشعب، لن تكون فى صالح الجماعة أبدا، أظن أنه بات محتماً على الجماعة أن تتبنى إستراتيجية بديلة. أظن أن هناك أطرافاً فى الداخل والخارج تريد أن تتحين الفرصة لاستئصال الجماعة ومحوها من الوجود تماما، بدعوى أن الأحداث أثبتت أنها أصبحت عبئاً على الوطن آن أوان التخلص منه، فلا هى نجحت فى قيادة الوطن نحو بر الأمان، حين أتيحت أمامها الفرصة، ولا هى تريد للوطن أن يستقر كى تغطى على عجزها وفشلها، لذا آمل أن ينتصر صوت العقل داخل الجماعة، وأن تتغلب لغة الحوار على لغة المواجهة، وأظن أنه مازال هناك دور تستطيع الجماعة أن تقوم به للمشاركة فى إدارة المرحلة الانتقالية الراهنة وفقا لخارطة طريق جديدة نأمل فى أن تنجح فى التأسيس لنظام سياسى يتسع للجميع، وليس نظاماً مصنوعاً على مقاس طرف أو تيار بعينه. كيف ترى أزمة التيار الليبرالى فى مصر، واتهامه بأن قادته من أصحاب الياقات البيضاء ويجلسون فى الغرف المكيفة؟ هذه مقارنة جائرة، ذلك أن التيار الليبرالى لم يأخذ حظه من الحكم، الذى لم يتجاوز سبع سنوات، منذ 1923 إلى قيام ثورة يوليو، وما كان يتخلل ذلك من حل الملك للبرلمان، فلم يُتح له إقامة قواعد جماهيرية وشعبية واسعة، على عكس جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها عام 1928 ، وقيامها على مبدأ السمع والطاعة، وأعمال البر والتقوى، الأمر الذى رسخ لها وجودا فى الشارع. ومن هنا، تعثرت الثورة، لأن كل تيار حاول جذب البلاد نحو الأيديولوجية التي يريدها. فالحزب الحاكم والمعارضة يرتكبان أخطاء سياسية، وآن الأوان لأن نتوقف عند هذا الحد من الصراع، والتخلى عن المصالح الحزبية، والعمل من أجل مصلحة الوطن في المقام الأول، وعلى القوى الليبرالية النزول للشارع، وتبصير المواطنين بخطورة استحواذ التيار الديني على مجلس النواب القادم، فالكلمة النهائية ستكون للشعب. ماذا يحتاج الشعب من الحكومة الجديدة؟ يحتاج الشعب إلى أن تكشف له الحكومة، بشفافية تامة، عن نتائج التحقيقات فى جرائم القتل والاغتيالات والمذابح التى وقعت منذ 25 يناير 2011 حتى الآن، ومن هو هذا «الطرف الثالث» الذى كان يُستخدم دائما كشماعة للتنصل من المسئولية، وهل تنوى الحكومة إجراء تحقيقات إضافية فى هذا الشأن، وكم تستغرق من الوقت، والضمانات المتعلقة بسلامتها واستقامتها هذه المرة. وعلى الصعيد الاقتصادى، يحتاج الشعب إلى أن تكشف له الحكومة، وبشفافية تامة، عن جميع حقائق الوضع الاقتصادى، خاصة ما يتعلق منه بحجم الدين العام، الداخلى والخارجى والمخاطر المترتبة عليه، والسبل الكفيلة بوقف الاستدانة أو التقليل منها إلى أقصى حد، وحجم البطالة، خصوصا بين الشباب، والحصيلة الإجمالية للضرائب والشرائح الاجتماعية التى تتحمل عبأها، وعدد المصانع المتوقفة عن الإنتاج والوسائل المقترحة لإعادة تشغيلها، وحالة القطاع الزراعى وحجم الاعتداءات التى وقعت على الأراضى الزراعية. وعلى الصعيد الاجتماعى: يحتاج الشعب أن تكشف له الحكومة، وبشفافية تامة، عن حجم الفساد الذى استشرى خلال المرحلة السابقة، خصوصا ما تعلق منه بعمليات الخصخصة وتوزيع أو بيع الأراضى وسبل استرداد حقوق الدولة بشأنها، وحجم الأموال المنهوبة والمهربة للخارج، والإجراءات التى اتخذت لاستردادها، وأسباب تعثرها... إلخ. كما يجب طرح الحقائق كاملة فيما يتعلق بأوضاع سكن المقابر والعشوائيات، ولأن المساحة المتاحة لم تعد تتسع للمزيد، فلم يبق سوى إعادة رفع الشعار الذى سبق أن طرحناه مرارا وتكرارا، وهو الشفافية هى الحل