رمضان المجيد، يرسل نسائم التقوى من أفق بعيد، أرى أنواره السنية تشرق فى أعماق النفس، وفى طوايا الروح . يقبل علينا رمضان النبيل، فى وقت أحوج ما نكون إليه، إلى بره ومرحمته، إلى عطفه وحنانه، إلى موعظته وتقواه، إلى نوره وهداه.فى طفولتى، كنت أنتظر قدوم رمضان لنفرح لهوا، ولعبا، وطعاما، وشرابا، ولنشارك الكبار صياما وقياما، ولنهنأ بالفوازير، والمسلسلات، ولنسمع الدروس والعظات . رمضان، فى الريف القديم، كان عيدا موصولا، ومهرجانا منصوبا للفرح الدائم، فى الليل والنهار، فى الغيط الأخضر، وفى البيت الظليل، نسهر الليل فى المضيفة، حول تلاوة القرآن، ودروس الفقه، ومجالس السمر والدردشة، بعد أن نفرغ من صلاة التراويح.كانت العبادة هينة يسيرة، بعيدة عن ألوان التنطع التى جاء بها التدين المستحدث، الذى عرفناه على يد الجماعات الدينية، كان الله - تبارك اسمه - حاضرا فى الضمير، يملك على الناس حياتهم، فهم يتوجهون إليه طائعين، ويقبلون عليه فرحين، دون زعم أو ادعاء، ودون تكلف أو رياء، لا فرق عندهم بين حر الصيف أو برد الشتاء، بين مواسم الزرع أو مواسم الحصاد، فرمضان حقيقة روحية قائمة بذاتها، ومستقلة فى وجودها، ومنفصلة عن الواقع المادى لحياة الناس فى الريف، وما يخالط هذا الواقع من مشقة الكد والعمل، ومن قسوة الحياة والظروف . بالعكس، كنا فى الريف القديم، ننتظر رمضان، حتى نفرح برغم أنف الملمات، وحتى نبتسم مهما تكن قسوة الأيام علينا .من هنا، فإن رمضان كان ترفيها سنويا فى بيئات بسيطة، يرضى أهلها بالقليل، لايعرفون المصايف، ولا ميزانية عندهم، ولا وقت لهذا الترف الذى يعتاده أهل المدن حين يعمدون الارتحال صيفا إلى الشواطئ، وقد زادوا عليها رحلة جديدة فى الشتاء، لم نك نعرف هذا، ولم نكن لنصدق ذاك لو سمعنا به وحكى أحد لنا عنه. رمضان الخريف، كان ذا مذاق خاص، هوموسم حصاد، ومن ثم يكون مناسبة طيبة تتوافر فيها السيولة النقدية، فتعرف حياة الناس ألوانا من الترف المؤقت، يضفى على ساعة الإفطار إحساسا طارئا بلذة النعيم العابر، وكل عابر لذيذ . فى ذاكرتى الوطنية رمضان مفرد، لا مثيل له فى سجل الزمن، رمضان الحرب المجيدة، كان البلد فى حالة تقشف، اقتصادنا موجه للجند الأبرار على جبهات القتال، صفارات الإنذار تدوى، نطفئ أنوار الجامع، وأنوار المضايف، وأنوار البيوت، ولم تكن الكهرباء قد دخلت أغلب بيوت البلدة، خالى زكى كان على جبهة القتال،على ابن أبويا حسن أبو خضير كان على جبهة القتال، عوف ابن أبويا إبراهيم أبومنصور كان على جبهة القتال. نسكن البوابة الشرقية لمصر، على تخوم الجبهات فى سيناء والقنطرة وبورسعيد والإسماعيلية والسويس، الشظايا تلهو فى السماء، وألسنة الدخان يجرى بعضها وراء بعض. تزعق صفارة الخطر، تصرخ خالتى هانم يا حبيبى يا أخويا يا زكى، يتلبش الجو، ويتلبد بغيوم الحزن والأسى، اللقمة مرة فى الفم، وشربة الماء تقف فى الحلق، غصة شاملة، نقوم من الطبلية وطعامها عليها.رمضان، بأية حال، عدت يارمضان، نذهب إلى نومنا ونحن نحمل دموعنا فى مآقينا، ونحمل المواجع فى قلوبنا، نصحو على ألم، ونتحرك على شك، ونتكلم على غير يقين، نرى هدما بلا بناء، ونرى كلاما بلا عمل، ونرى وعودا بلا وفاء، ونرى أياما تنقضى بلا إنجاز.أكتب هذه الكلمات، على إيقاع الفتنة المذهبية التى حلت بديارنا بغتة، فإذا بنا نتقاتل بين سنة وشيعة، أكتبها مسكونا بالدموع، مسكونا بالوجع، مسكونا باللوعة والحسرة، عزائى إليك يا وطنى.